ثقافةصحيفة البعث

حقَ لدمشق أن تفخر لأنها أنجبت غادة السمَان

قد تكون غابت عن الساحة الأدبية، ولكنها لا تزال تتنشق رائحة الأدب أينما وضعت يدها، إنها عاشقة له، ولكنها طعنت في السن، إنها التي حملت في كتاباتها هموم المرأة، وأضافتها إلى همومها، وعبرت عن قضاياها بكل صراحة وجرأة، وتمرَدت على العلاقات الدمشقية التي كان لها إرث كبير في التخلف، وهذا يعود إلى تربيتها وثقافتها وعلاقتها الاجتماعية التي نشأت عليها، فهي تربت في كنف أسرة محبة للثقافة، والدها الدكتور أحمد السمان، خريج جامعة السوربون في الاقتصاد السياسي ثم أصبح رئيساً للجامعة، وبعد ذلك وزيراَ للتعليم، محب للعلم ومتعلق بالفكر والثقافة والتراث وكان لها صلة قربى بعائلة القباني.

ولدت الأديبة غادة السمان في دمشق عام 1942، تربت فيها ودرست في جامعتها وتخرجت في قسم الأدب الإنكليزي عام 1962، ثم انتقلت إلى بيروت لتكمل تعليمها في الجامعة الأميركية، وكانت بيروت عاصمة للحرية والثقافة والانفتاح في ذلك العهد. في هذه الفترة، أصدرت مجموعتها الأولى (عيناك قدري) وأعلنت تمردها على كل العادات والتقاليد البالية التي كانت ترسف فيها المدن العربية، لقد عبرت عن معاناة المرأة وتهميشها وقمعها في المنازل، ولقيت هذه المجموعة إقبالاَ من الرأي العام المتنور، وهذا ماشجعها على إصدار المجموعة الثانية، بعنوان (لا بحر في بيروت) وهي عبارة عن تأملات فلسفية وجودية تصب في صالح المرأة وترتقي بها درجة لإنقاذها من الشقاء الواقع عليها والذي غالباً ما يكون الرجل وراءه الذي يعتبر المرأة سلعة تباع وتشترى.

اتجهت الكاتبة بعدها إلى لندن لتعيش تجربة الانفتاح والحرية، وأصبحت مراسلة لصحيفة لبنانية، وفي هذا الزمن نشرت مجموعتها الثالثة (ليل الغرباء) عام 1966 حيث تعرفت على المثقف وقارنت بين الهوة التي كان يحملها وما بين فكره وأسلوب حياته، وبعد حرب حزيران عام 1967 تركت الكتابة فترة طويلة، وكان حسَ التمرد في هذه المرة من نوع جديد فأصدرت مجموعة تحمل اسم (رحيل المرافئ القديمة) سلطت الضوء فيها على المثقف حين تتعاوره الأزمات الفكرية والسياسية والاجتماعية، فهو يعاني من فصام في داخله أدى به إلى أن يعيش في تناقضات في فكره وسلوكه.

في ذلك الحين لم تعد القصة القصيرة تكفيها وتعبر عن تطلعاتها، فكتبت الرواية، وكانت بعنوان (بيروت 75) رسمت فيها ملامح التشوه الذي لحق المجتمع العربي والذي تجسد في بيروت، كما تنبأت بالحرب اللبنانية التي دارت رحاها في 1976، فعلى لسان العرافة، تقول: “أرى كثيراَ من الدم في شوارع بيروت” ثم تلتها برواية أخرى هي (كوابيس بيروت) وتتحدث فيها عن مرحلة عصيبة من تاريخ لبنان، تبدأ بسقوط القذائف والصواريخ وتنتهي بالعهر السياسي والمالي في مناخ فاسد أخلاقياً وإنسانياً. وبعد ذلك اهتمت بالرواية فأصدرت (ليلة المليار) متأثرة بالحرب اللبنانية وكيف أن المثقفين الذين هربوا من بيروت تراهم يضيعون في المنافي التي حولتهم إلى أشباه بشر، فهم يهربون من جحيم الحرب ليقعوا في جحيم آخر وليضيعوا في متاهات الرذيلة. ثم عادت إلى دمشق لتتذكر الأيام التي قضتها فيها فأصدرت (فسيفساء دمشقية) عام 1997 وإذ بها تكتب عن البيوت الدمشقية المعبأة برائحة الورد والياسمين التي تلقي بظلالها على أرض الديار، وفيها يجري أحد فروع نهر بردى، فهنا شجرة كباد وهناك شجرة مشمش، وهنا تفوح رائحة البرتقال والنارنج. حياة ولا أجمل، ثم جاء الرجل الذي يحمل إرثه المتخلف فوق كتفيه فقتل هذه المتعة التي كانت تجمعها المرأة الدمشقية، إنها تصف ساحة النجمة بدمشق ووصف للأسواق والبيوت الدمشقية، تتكلم عن علاقات الناس ببعضهم، وترصد العادات والتقاليد، كل هذه الأشياء تتهامس مع غادة السمان كأنهما عاشقان يبوحان لبعضهما بالشوق داخل أحد البيوت الدمشقية المليئة بالخضرة والحب والياسمين. ولعل شخصية (زين) تجسد صورة غادة وهي طفلة في الحي الدمشقي، إنها تفجر الصراع مع كل امرأة استسلمت لقدرها وللعادات المتخلفة والبالية التي رسخت في ذهن المرأة وباتت جزءاً من حياتها. لقد خرجت عن طاعة الرجل الدمشقي وجبروته، وتريد أن تنطلق إلى آخر المدى بالفساتين الملونة بكل ألوان الزهور.

تعتبر غادة السمان من أهم الكاتبات المعاصرات الملتزمات بقضايا المرأة وحريتها، فهي تتمرد من أجل أبسط حقوق المرأة، وهذا ما جعلها تقدم لنا أدباً إنسانياً من أجل حقوق المرأة المستلبة وكي تخلصها من ظلم الرجل الذي ينزلها إلى مرتبة أدنى مما تستحق، وكأنها لم تخلق إلا لإشباع غرائزه وإشباع رغباته المكبوتة، إنه الرجل المتخلف الغيور المعقد، ضيق الأفق، هذا هو الذي تكرهه وتحتقره.

ما كتبته غادة السمان يتسم بالعبارة السهلة الواضحة التي تجذب القارئ وتستغل طاقة اللغة إلى أبعد مدى. إنها تضفي عليك فصاحتها وأسلوبها وصورها ورؤيتها الوجودية المتمردة التي بلغت حدَ الرفض لما تعارف عليه المجتمع العربي، وفي لحظات هدوئها كانت تلجأ إلى الشعر، تجد فيه واحة آمنة تخلصها من عذاب تعيشه.

لها من الدواوين: حب – عاشقة في محبرة – شهوة الأجنحة – القلب العاري عاشقاً – أعلنت عليك الحب – عاشقة الحرية – أشهد عكس الريح – رسائل الحنين إلى الياسمين – الأبدية لحظة حب.

فيصل خرتش