“إيقاعات متمردة”.. عائشة قسوم تدخل عالم الرواية بثقة كبيرة
في تشكيل أنثوي يفيض بالمشاعر الإنسانية النبيلة والحب الصادق للوطن، نسجت الروائية عائشة قسوم خيوط روايتها على أوتار القلوب المتعطّشة للحب والصدق وروح التمرد، وبعفوية المرأة التي تحاول أن تكون كشجرة سنديان لا تلوي أغصانها لا ريح عاتية ولا شمس لاذعة، معتمدة في شخوص روايتها على واقع معاش، أو ربما يكون إسقاط الخيال على الواقع، ولكنني لامست ذلك حين قرأت الرواية التي سلّطت فيها الضوء على حياة المرأة عموماً في الحرب الإرهابية على سورية، تاركة مخلفاتها النفسية والمأساوية على كافة البشر باختلاف أديانهم وأجناسهم، فلم ترحم حجراً ولا بشراً ولا كبيراً ولا صغيراً، وكان للمرأة الحصة الأكبر من هذه المخلفات وأكثر من وقع عليها ظلم المجتمع المتردي دون التفكير بمشاعرها وما آلت إليه من ظروف قاهرة.
ومن خلال تلك العيادة النفسية لأحد أطباء العلاج النفسي الذي أبى أن يتخلّى عن بلده في أحلك ظروفها مقدماً خدماته لمن يحتاجها بالمجان، التقطت بعدسة روحها الوثابة والمحبة للخير والجمال أحداث روايتها، لتكون غرفة الانتظار هي المكوّن الأساسي لبناء هيكل الرواية حيث النسوة اللواتي يتحدثن بقصصهن ومآسيهن مما اضطرهن للجوء إلى العلاج النفسي، فتصور بأسلوب روائي أدبي رشيق المعاني هذه الأحداث وببناء متماسك لا يخلو من الدهشة والحراك العاطفي المتوسم بطابع البساطة ليكون قريباً من ذائقة المتلقي المتمسك بزمام الحدث والصور المليئة بشتى أنواع القهر والظلم والعبودية، إن كان من الإرهاب، وهو بدوره ما سيّر المجتمع ليكون ظالماً بحقها وحق قريناتها.
حياة ومنى وأمل وسمر وسعاد وعلياء وماجدة ونادين وعاتكة وغيرهن بعد أن اطلعن على مآسيهن قررن أن يتحررن من قيد العبودية والجهل الذي عاد من جديد ليكون سيد الموقف في مجتمع ساده القهر والظلم، وليثبتن للعالم أنهن قادرات على مقارعة شتى أنواع الظلم، حيث قمن بتشكيل ورشات عمل وإثبات الوجود بعيداً عن ذاك الرجل المتسلط والمتباهي بذكوريته والذي لا يترفع عن حب الشهوات مع أي امرأة يصادفها مستغلاً ضعفها وحاجتها للمال من أجل استمرار الحياة، متناسياً كل القيم والمبادئ والأخلاق العربية الأصيلة.
وفي الفصل الثاني للرواية ترسم لنا الروائية صورة أخرى للمرأة الريفية التي قاومت ظروف الحرب بأبسط الوسائل وأثبتت وجودها إلى جانب الرجل الحقيقي الذي ترفع بكرامته وعنفوانه عن حب الشهوات واضعاً نصب عينيه عدم المساس بشرف المرأة المقاومة وكرامتها وخدش كبريائها. فكانت أسماء مثال المرأة الحقيقية التي تعدّ الطعام لأفراد الجيش بالتعاون مع نساء البلدة، والطبيبة فوزية التي تعالجهم بالمجان، وأيضاً نهلة المدرسة التي تزرع حب الشجاعة والقوة والأخلاق في نفوس طلابها ليكونوا على دراية بما تخلفه الحرب على عقول الجيل القادم.
تسلّط الروائية الضوء على أهم القضايا التي تخصّ المرأة اجتماعياً وأخلاقياً والعمل على إثبات ذاتها والوقوف في وجه التآمر والانسلاخ من ثوب العبودية والسعي لاسترداد حريتها وكرامتها.
لم تتعاطف الروائية قسوم مع المرأة بشكل عام حتى تكون منصفة للحق والعدالة الإنسانية، فهناك جانب آخر للمرأة الظالمة لنفسها فقدمتها للرجل رخيصة، كما قدمت بناتها لمن يدفع أكثر لتكون ضحية من ضحايا الطمع والجشع وحب المال والسعي للرفاهية على حساب كرامتها وشرفها، فكنّ ضحايا زوجة الأب أو الأم وزوجها.
لقد قدمت الروائية عملاً متماسكاً محركة عاطفة واحدة منسجمة مع كل الشخوص الروائية والحدث الذي أرادته وأكملت حراكه البنيوي حتى شاءت له أن يكون، فجاءت الرواية على شكل فانتازيا مشابهة للواقع لتدخل عالم الرواية بثقة كبيرة، محاولة إثبات وجودها كامرأة تعشق الوطن بكل تفاصيله وجمالياته والحث على روح المحبة والتآخي وقتل الكراهية والعيش بكرامة، بعيداً عن كل تضليل أتانا من الخارج ليشوّه وجه الإسلام والتاريخ ويقتل فينا حب الله، تقول في سياق روايتها: أنا امرأة عافت التضليل وأحبت الله فقط وكرهت تعدّد المذاهب والعبادات واعتبرت الانتماء للوطن والأخلاق هو أرقى انتماء.
نبوغ أسعد