نقـــل وعقـــــل
د. نضال الصالح
لا صلة لهذا المقال بما هو فقهيّ كما قد توحي علامته اللغوية بذلك، بل بالمفارقة بين الروايتين الشعبية والعلمية للنعوت الدالّة على أشدّ أيّام الشتاء توحّشاً وطيشاً وجنوناً ووطأة على الإنسان، ولاسيما الفقير الذي قد لا يجد ما يقيه قرّه وزمهريره وصقيعه وصرّه وصرصره وقرسه وكلَبه وقفقفته و.. حسبما ذكر الثعالبي في بديعه “فقه اللغة وسرّ العربية” من ألفاظ في هذا المجال، أعني الرواية الشعبية عن أقسى خمسينية من الشتاء، السعودات، من سعد الذابح إلى سعد البلع إلى سعد السعود إلى سعد الخبايا، التي تفسّرها هذه الرواية بالقول إنّ شخصاً اسمه سعد لم يمتثل لنصيحة أبيه في أن يحمل معه في سفره ما يقيه تقلبات الطقس وحماقة الشتاء، وعندما دهمه البرد منتصف رحلته واشتد عصف الريح والأمطار والثلوج لم يكن أمامه سوى أن يذبح ناقته ليحتمي بجوفها من شدّة البرد، فسُمّيت الأيام الأربعة عشر (من الأول إلى الثالث عشر من شباط) التي أمضاها محتمياً بجوف الناقة سعد الذابح، وعندما دهمه الجوع بعد أيام أخذ يقتات على لحمها (من الثالث عشر إلى الخامس والعشرين من شباط)، فسُمّيت تلك الأيام بسعد البلع، حتى آخر الرواية التي تبدو وثيقة الصلة بالعبقرية الشعبية التي تفسّر ظواهر الطبيعة وخوارقها على نحو يتجاوز الواقع إلى الخرافة.
أمّا الرواية العلمية، فتذهب إلى أنّ الأيام الأولى من الخمسينية، سعد الذابح، سُمّيت كذلك لأنّ البرد يبلغ حداً من القسوة والحدّة ما يجعله شبيهاً بمَن يقوم بفعل الذبح من دون رحمة أو شفقة أو إحساس بأنّ ثمّة روحاً تضطرب بين يديه، وإلى أنّ الأيام التي تلي ذلك سُميت سعد البلع لأنّ الأرض تبلع مياه الأمطار خلالها، حتى ليكاد الناظر إليها لا يرى أثراً لهذه الأمطار، حتى آخر هذه الرواية التي يضيق المقام بسردها جميعاً شأن ما يعني الرواية الشعبية التي تنتمي إلى النقل لا العقل.
من سعد الذابح إلى سعد البالع إلى.. ليست حكاية خمسينية الشتاء وحدها، بل حكاية الحكايات في تاريخ الخليقة منذ قابيل وهابيل، حكاية النهم إلى دم الآخر المختلف، وحكاية لوثة الغيرة والحسد وإيثار الذات. حكاية قوى الشرّ العالمي التي تستبيح أقوات الشعوب وخيراتها، وحكاية التاجر الشره إلى ما يثمّر رصيده من المال دائماً مهما يكن من أمر تعبيره عن ذئب مستتر تحت جلده، وحكاية المسؤول الذي لا يعنيه من أمر المؤسسة التي تربّع على رأس الهرم فيها سوى ما يعنيه من لحمها مهما يكن من أمر نسبته إلى “شايلوك” صغير أو كبير يحكم وعيه وقيمه. حكاية ما تُسمّى السوق السوداء التي لا يثني عبيدها وعبدتها شيء عن التهام الأخضر واليابس في طريقهم إلى مجد الثروة.
وبعد، وقبل، فما أكثر سعد الذابح وسعد البالع على ظهر هذه المسكينة الأرض!.
وبعدُ، وقبلُ، أيضاً، ومهما تغوّلت السعودات، الحقيقة والمجاز، فهي محكومة بالمثل العربي القديم: انجُ سعد، فقد هلك سعيد.