فتيات يتمسكن بالأمل والحياة ويأخذن دور الرجال مبكراً
رغم مرور أكثر من 10 سنوات لم أستطع أن أنسى تلك “الصبية” التي انتزعت الحياة منها كل صفات الصبايا باستثناء نعومة ملامحها وجمال محياها. “سمر” سيدة غير متزوجة كانت جارتنا في أحد أحياء دمشق تسكن مع أختها الكبرى “سكينة” الموظفة في إحدى المؤسسات الحكومية، لكن سمر كانت هي المعنية بإدارة شؤون البيت، تفتح محلها الصغير تتمايل بخطاها كرجل، تأخذ كرسي حديد وتجلس شاردة في اللاحياة!، فما هي الدروب التي تدفع الفتيات لتحمّل مسؤولية الرجل داخل البيت؟.. وماهي الآثار النفسية التي يتركها هذا التحوّل على شخصيتهن؟.
الفتاة الرجل
اعتدنا في مجتمعاتنا أن يحمل الرجل كامل مسؤولية العائلة، تساعده زوجته إن كانت موظفة، وبعد وفاة الأب يتحمّل الابن الأكبر أعباء المنزل بعد أبيه، ومع وقوع الحرب وفقدان “السند” شهدنا إناثاً كنّ رجالاً ليس فقط في سوق العمل وامتهان مهن الرجال، بل بتنَ “عمود” البيت وقوته، لكن أن ترى فتيات بعمر الورود يقدن دراجات نارية ويحملن أكياس ملابس وخضراوات، وأحياناً أسطوانات الغاز، فهو مشهد غريب على العين ومؤلم في الوقت نفسه. فسهام الأخت الصغرى لعائلة من أربع بنات توفي والدها بحادث سيارة فقررت ابنة الـ17 ربيعاً أن تساعد أمها إلى جانب تحصيلها الدراسي، تنزل يومياً إلى سوق الخضار تملأ سيارة مستأجرة وتضعها في محلهم الصغير بحيهم الشعبي، تقول: تعرضت لانتقادات كثيرة من أبناء الحي لكن أمي كانت تشجعني وتقول “أنت لا تفعلين شيئاً مخجلاً فلا تستحي”، وفعلاً تقبلوني هكذا واعتادوا عليّ كما أنا اليوم. أما صبا ابنة الـ15 عاماً فتقول: “بينادوني بالضيعة حسن صبي بس مابعطيون اهتمام.. بضلني بشغلي”، تتحدث وهي تبدّل عجلة دراجتها النارية التي تقودها إلى مركز المدينة لتبتاع الألبسة بغية بيعها، هذه الفتاة دفعتها الحياة لتكون ذات مسؤولية وهي حاصلة على أربعة أحزمة كاراتيه، وعند سؤالها عن خوفها من خسارتها أنوثتها، أبدت عدم قلقها، فهي كما تقول مازالت صغيرة ولا تفكر بهذه الأمور. أما هدى التي تجاوز عمرها الـ50 عاماً ورغم وجود أب وإخوة ذكور إلا أنها هي المسؤولة والمعنيّ الأكبر بمصروف البيت، تعمل في دمشق بقطاع خاص وترسل مجمل راتبها إلى أهلها في القرية لتنسى نفسها بين آلات الخياطة وصوت المكنات، تقول: لم أعد أفكر إلا بأهلي وكيف يجب أن أساعدهم، خاصة وأن لنا أختاً بسن العشرين من ذوي الاحتياجات الخاصة، فلم تعد أمور الحياة تعنيني كثيراً”.
تأثيرها النفسي
من المؤكد أن غياب الأب له أثر كبير على نفسية الأبناء لأنهم يفقدون الأمن والأمان وتتغير سلوكياتهم ويكبرون قبل الأوان، وبغياب إحدى “كفتي الميزان” تتغيّر التنشئة التربوية، ورغم أن الدراسات تثبت أن الصبي يتأثر أكثر بغياب الأب، إلا أن الخبيرة النفسية وصال مريشة تؤكد أن فقدان الفتاة لوالدها تأثيره مضاعف في سنوات عمرها الأولى، لأن وجود الأب يعمّق شعور الفتاة بدورها الأنثوي عن طريق معاملته المميزة لابنته عن إخوتها الذكور، ما يرسخ شعور الأنثى لديها ويدعم تقبلها لذاتها والنجاح بتحقيق التوافق النفسي والاجتماعي، ويعلمها الحياة ويضعها على طريق النجاح المهني، كما يعلمها ما يجب أن يكون عليه سلوكها مع زوج المستقبل، لكن غيابه وتملّص الأخ من المهام وأحياناً عدم وجوده يدفع الفتاة لتكون هي الشاب في المنزل، وتقول مريشة: تنخرط الأنثى في العمل وتحمل عبء إخوتها، فتنسى الحياة وتشعر بأنها الأب والأم وتغذي شعور الأمومة لديها عبر هذا السلوك، فلا تشعر أنها بحاجة زوج أو ولد، ويسرقها الزمن من أنوثتها فلا تنظر للمرآة. وتضيف: ألتقي مع فتيات نسين تماماً متى آخر مرة نظرن فيها لأنفسهن في المرآة، وللأسف رغم وجود أخ في البيت لكن زواجه وبيته يأخذانه من مهامه تجاه إخوته ويتناساهم مع الزمن، وذلك مردّه إلى صعوبات الحياة ومرارة تأمين لقمة العيش، فيترك هذا الشأن لواحدة من أخواته البنات، وأكثر النماذج التي نشهدها هي لفتيات قدمن إلى المدن من أرياف بعيدة وهن في زهوة العمر، ويمضين العمر في قطاعات خاصة تستغل الجهد والوقت، فيقطعن سن الزواج وتكون المحطة الأخيرة لهن مع رجل طاعن في السن وأب لأبناء شباب، فتنتقل من العناية بأهل بيتها لرعاية زوج مسن وتفقد ملامحها الأنثوية مع الوقت، ولاشك أن لهذه الأمور آثاراً سلبية على شخصيتها، منها بحسب الخبيرة ابتعاد الفتاة عن الحياة الاجتماعية الحديثة وقولبتها بقالب العمل فقط، فتصبح أكثر عرضة للخطأ بسبب قلة خبرتها، ومنها نظرة المجتمع التي لا ترحم، فيظل الناس يصفونها بأسماء صبيانة حتى تتعايش هي نفسها مع الاسم، فتبتعد عن عالم البنات وتراه مضحكاً وسخيفاً، للأسف المرأة دائماً الطرف الأضعف في كل شيء، تقول مريشة: وانخراط الإناث بأعمار مبكرة بهذا الشأن يأخذهن من عالمهن الخاص لعالم جديد غير مفهوم، وهنا يأتي دور الحكومة والمجتمع بلحظ هذه الأمور وتأمين فرص عمل للمعيلات في الأسر المحتاجة بما يتناسب وطبيعة أجسادهن، ليخرج المجتمع بامرأة عاملة ومثقفة وأم على دراية بكيفية قيادة أسرتها في ظل غياب الرجل.
نجوة عيدة