الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

عقل ومشاعر

   عبد الكريم النّاعم

بعض مَن نجلس إليهم، حتى ولو لم يتكلّموا، نشعر بإشعاع مريح يصل إليك، وهذا حالي مع ذلك الشيخ الجليل، فمَن قال إنّ بعض المعادن النّادرة وحدها التي تشعّ؟!!

أثناء الحوار ذكرتُ له أنّ أحد الذين هاجروا، إلى بلد أوروبي، استطاع الحصول على شهادة قيادة سيارة، وهذا من الأمور الصّعبة، وأثناء جلوس مَن امتحنه بجانبه، صادف مرور مجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصّة، فتوقّف ليمرّوا، فسأله الممتحِن: “لماذا وقفت والمرور لك؟!!”، فأجابه: “لظرْف إنساني”، فأجابه: “القانون يأتي أولاً، وقبْل أيّ شيء آخر”، وقد استغربتُ ذلك”.

قال: “لا تستغرب، فالغربيّون، بعامّة، كان من أسباب بلوغهم ما بلغوه التمسّك بسيادة القانون، فحيث يسود القانون تنتفي الكثير من المظالم، والبلد الذي يغيب فيه القانون تكثر فيه الفوضى، والتجاوزات، وتنتشر المَظالم، ويأكل القويّ الضعيف”.

قلت:” فأين نذهب بالمشاعر في مواجهة العقل البارد”؟!!

قال: المشاعر، والعواطف، والنّزوعات، أسماء لحالة واحدة، فأنت تشعر أوّلا، ثمّ ترتسم عواطف الشعور، سلباً أو إيجاباً، ومشاعرنا ليست على حالة واحدة، فهي متبدّلة بتبدّل المواقف أو الأحداث، وما ينجم عنها غير مأمون دائماً، فثمّة مَن تغلب عليه العواطف الخيّرة، وثمّة من تغلب عليه العواطف الشريرة، وقد تنتابنا حالات يطغى فيها الضّرر، وفي حالات أخرى قد يتغلّب النّفع، ولذلك فهي لا يُعتمَد عليها، والذين تغلب عليهم النّزوعات الخيّرة هم الذي يُعتمد عليهم في العمل العام، وفي التربية، وهم صُوى في المجتمعات يُهتدى بها، ويتمثّل ذلك في الأنبياء، والحكماء الإلهيين، ومَن سار على نهجهم، فإذا برز حضور هؤلاء كان علامة من علامات أنّ الخير قادم لا محالة، وإذا حصل العكس كان دليلاً على أنّ الأمور قادمة على توالد شرور قد لا تنتهي إلاّ بالكوارث،

أمّا العقل، وأقصد به العقل، لا ما يُشبه العقل..”..

قاطعتُه: “هل يوجد ما هو شبيه بالعقل؟!!”.

قال: “نعم، فقد سُئل الإمام عليّ (كرّم الله وجهه) عن الشيء الموجود في رجل ذكروه له، فقال: “هو شيء شبيه بالعقل وليس عقلاً”، وهذا دليل على أنّ العقل العقل هو نورانيّ، وخير في جوهره، ويكفي ما جاء على لسان النبيّ الأكرم، عن خلْق العقل، قوله: “أوّل ما خلق الله العقل، فقال له أقبلْ فأقْبَل، وقال له أدْبر فأدبَر، فقال له ما خلقتُ خلقاً أحبّ إليّ منك، بك آخذ، وبك أُعطي..”، إلى آخر الحديث، فإذا توفّر خير العقل توفّرت البركات، وإذا غلبت نزعات الطمع، والشّرَه والظلم، كان ذلك “شبيها بالعقل”..

قاطعتُه: “ولكنّ الإنسان ليس عقلاً محْضاً!!”.

قال: “وذلك هو الامتحان والاختبار لعوالم البشر، فالعقل ميزان لا يَخدع، فحين يُقدم شرّير على شرّ يقول له العقل: هذا شرّ، فيُقدِم لشقاوته، وهو يُدرك أنّه شرّ، فالعقل هو الرقيب والميزان، أقامه الله حجة على الإنسان في رحلته التي إمّا أن تنتهي إلى جنّة رضوان، أو إلى جحيم دائم، مظلم، بارد، بليد، ولذا رُفِع القلم – كما قالوا – عن الطفل حتى يكبر، وعن النّائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يَعقل، لأنّ الحالات الثلاثة لا وجود للعقل فيها”.

قاطعتُه: “فما حال من كان لديه ما يُشبه العقل، لا العقل؟”.

قال: “ما يُشبه العقل يُدرك ما يفعله، فهو يقتل وهو يعلم أنّ القتل حرام، ويكذب، ويخدع، وقد لا يترك موبقة إلاّ وفعلها، وهو يعلم أنّها من المذموم المنهيّ عنه، فحسابه حساب العاقل، ولعلّه بسبب موبقاته أَطفأ النّور الإلهي فصار شبيهاً لا عقلاً…

aaalnaem@gmail.com