ثقافةصحيفة البعث

هجرة النصوص إلى النصوص

أحمد علي هلال

ثمّة سؤال حائر، لعلّ الإجابة عنه ستبدو مؤجلة إلى وقت ما، هل التجريب في كتابة الرواية بعد الذهاب إلى أقاليم الشعر والنثر، سيسجّل علامة فارقة للمبدع/ المبدعة، وهل أصبحت الرواية هي غاية أكثر منها وسيلة لتحرير المعنى في إبداع مختلف يقبض على اللحظة، ويُذهب عنها الترمّد والتشظي ويحيلها إلى فضاءات تجلو للمبدع غير أكوان؟.

قد يقول قائل هنا إن صوت الرواية بصيغته الجمعية ربما يكون أعلى الأصوات، ولعلّه يضيف متندراً في -هذا السياق- لطالما كان الشعر صوتاً فردياً بعض الوقت، إلا أن ما يفسّر ذلك كله -على الأرجح- هو المغامرة الإبداعية التي لا تضع أوزارها البتة، وتظلّ تتخاطف المبدعين إلى أن ترسو مؤقتاً على جودي الرغبة والشغف وحدهما، فضلاً عن جملة من التوصيفات المتواترة التي أصبحت نافلة إلى حدّ كبير، منها طبيعة التجريب والغواية وفتنة السرد التي تخاتلهم، لكنها لا تستقر إلا فيما ندر.

صحيح أنه قيل الكثير عن طبيعة الكتابة الروائية، ولماذا أصبحت جاذبة بما يكفي، لعلها من تسمح لتلك الفيوضات بالتدفق بطبيعتها المرآوية والمتعدّدة في آن معاً، وقد تتقنّع بالسيرة كما ذهب كثيرون، لكن السيرة الأكمل هنا هي سيرة النص بتحولاته وانعطافاته، وبقدرته أيضاً على أن يحمل اللغة لتحاكي بمنظومة رمزياتها هذا العالم المتناقض والمركّب من أزمات وحروب وأوبئة معاصرة، ليس الشعر ماضي الكلام، وليست الرواية مستقبلها، لكن ذلك ينبغي له أن يأخذنا مجدداً إلى طبيعة المغامرة الإبداعية من حيث أصالتها وقدرتها على أن تهدم لتبني وتصوغ لتوّشي حياتنا المعاصرة بأقانيم المعنى.

درسُ الرواية هنا أنها رؤية من العالم بكلياته وجزئياته، بل هي رقصة حول النار وفي قلب النار، حتى تنجلي جواهر التجربة اتصالاً وانفصالاً بواقع بعينه أو ما وراء هذا الواقع، فلماذا نحبّ الرواية إذن، بعيداً عن أنها تشبهنا أو لا تشبهنا، وبوصفها مرايا أرواحنا، ألأنها صوت المعاصرة الذي يحاكي تقاليد الرواية الأخرى التي كُتبت في الغرب توسلاً بأدواتها؟. تبدو الحقيقة مدعاة لأكثر من قول في هذا المقام، لا يُختزل بنزوع خفيّ إلى الشهرة وعلو كعب الصوت الأنثوي في الكتابة الروائية، وإلا.. فلنسائل الروائيين أنفسهم لماذا كتبوا الرواية بعد مغامرات في غير نوع أدبي، محسوبة أم غير محسوبة.. لعلّها قوة المثال التي تشي بأزمات الإنسان المعاصر، بحيث تتّسع هذه السرديات لفائض (حرية) تخاتل أولئك المبدعين، ليجهروا بها كلّ على طريقته وخصوصيته وفرادته، مع تفاوت الأداء اللغوي وقدرة المحكي الروائي على أن يقبض على المعنى، وأن يضع قارئه المحتمل على تخوم فجواته.

لعلّها الحداثة باستيهاماتها بوعي أو دون وعي من فرضت قدراً بعينه للكتابة، ومعها يظلّ المبدعون في إثر الكلمة الأخيرة التي لم تُقل بعد.