هل انتهت قيادة أميركا للعالم؟
إعداد: إبراهيم أحمد
“وضع الدولة العظمى كقيادة للعالم له ثمن لابد عليها أن تسدّده.. والثمن هو المسؤولية”. مقتطف من رسالة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل لأحد رؤساء أمريكا.
تُعتبر السنوات الأربع الفائتة من حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كارثية على مستوى سمعة البلاد وصورتها كإمبراطورية قائدة للحضارة الغربية، وتدميره لنموذج أرض “الحلم الأميركي” الذي لطالما شكّل الصورة اللامعة لمشروع واشنطن لقيادة العالم. لم تعد مظاهر التسلح وانتشار الميليشيات الشعبية المسلحة في شوارع المدن الكبرى والأرياف حكراً على دول العالم الثالث. فقد انتقلت هذه الظاهرة لتطال دولاً في العالم الأول مع انتشار موجة السياسات الشعبوية والتطرف اليميني في هذه الدول. لكن اللافت في الآونة الأخيرة، هو انتشار المسلحين في شوارع المدن الأميركية التي تشهد أشدّ موجة عنف سياسي باتت تهدّد الولايات المتحدة بمصير قاتم في أمنها الاجتماعي، واستقرارها السياسي، وموقعها القيادي على مستوى العالم.
ماذا فعل ترامب بأميركا؟
لقد ساهمت السياسات التي اعتمدها ترامب في زيادة منسوب التوتر في المجتمع الأميركي إلى حدود قياسية لم تعرفها البلاد منذ عقود طويلة. فلطالما تفاخر الأميركيون بأن بلادهم هي “أرض الحريات، وجنة الديمقراطية”، وأسسوا لدعاية سياسية واجتماعية واقتصادية تبرز تفوّقهم الحضاري على بقية العالم، تحت عنوان كبير ولامع هو “الحلم الأميركي”. لقد تميّزت الإمبراطورية الأميركية عن الإمبراطوريات الحديثة الأخرى كالإمبراطورية البريطانية بقوّتها الناعمة المضافة إلى القوى العسكرية والاقتصادية. وكانت الحجّة المقدمة لتمييزها عن الإمبراطورية البريطانية نوعية من ناحية شمولها لقوة “البرمجيات”، وتبعاً للمنظّر الأميركي جوزيف ناي، عميد مدرسة كينيدي التابعة لجامعة هارفرد وصاحب نظريّة القوة الناعمة، فإنه “يمكن لدولة ما الحصول على النتائج التي تتوخاها في عالم السياسة لأن الدول الأخرى تريد إتباعها، والتعبير عن الإعجاب بقيمها، ومحاكاة نموذجها، والطموح لمستواها من الرخاء والانفتاح”، أي أن القوة الناعمة التي اعتمدتها الولايات المتحدة كنظرية لنشر تفوّقها الإمبراطوري تعني الحصول على ما تريده دون اللجوء إلى “القوة أو الإقناع أو الحث”، إما العصا أو الجزرة: “إنها القدرة على الإقناع والاجتذاب، من دون جهد، وهي تنبثق في جزئها الأكبر من القيم”. لكن ما الذي جرى بعد ذلك؟. لقد أتى جورج دبليو بوش بحروب الراغبين، وبنظرية من ليس معنا فهو ضدنا، واحتل دولاً باستخدام القوة العسكرية الفتاكة، وأودى بالسمعة والصورة الأميركيتين إلى هاوية التقدير الشعبي العالمي، جاعلاً من بلاده غولاً مكروهاً غير مُهاب. ذلك أنّ ما من مكان في هذا العالم إلا وتجرأت قوة فيه على تحدي الإمبراطورية العظمى في التاريخ، فخسر المشروع الأميركي المعركة تلو الأخرى، من أفغانستان إلى العراق، ومن جنوب لبنان إلى أميركا اللاتينية، ومن صعود القوى الناشئة إلى تضخم قوة الصين الناعمة على حساب أميركا غير الناعمة.
لكن الإمبراطورية الأميركية تدهورت بسرعة فائقة لا يماثلها أي تدهور لإمبراطورية من الإمبراطوريات المعروفة عبر التاريخ. إنها مسألة سنواتٍ قليلة فقط، مرّت منذ انتصارها على المعسكر السوفييتي، لتبدأ بعدها واشنطن بالمعاناة على مستوى قيادتها للعالم. عام 2003 واجهت رفضاً عارماً حول العالم لنواياها في اجتياح العراق. لكنها ذهبت مع حلفاء مختارين واجتاحته، ودفعت فيه أثماناً مادية وبشرية كبيرة، ومن ثمّ اضطرّت إلى الانسحاب منه. لقد أودت سنوات حكم بوش بهيبة الولايات المتحدة على المستوى العالمي، وجاءت الأزمة المالية العالمية التي بدأت من أميركا لتكمل ما بدأه بوش الابن في موضوع تقهقر القيادة الأميركية في العالم، فصعدت قوى ناشئة بوجه واشنطن، وتشكّلت “بريكس” بين عامي 2008 و2009، ووصل باراك أوباما إلى السلطة ليحاول ترميم الكوارث الإستراتيجية التي تسبّبت فيها سنوات بوش الثماني في البيت الأبيض.
الآن، وبعد دراسات وتقارير المتخصصين من الخبراء، وكبار الساسة في العالم، في تشخيص حال النظام الدولي، بعد أزمة “كورونا”، من زاوية قيادة العالم، فإن هذه القضية صارت الآن، هي الشغل الشاغل للأمريكيين أنفسهم. البعض من هؤلاء يستشهد بمقولة تشرشل لأحد رؤساء أمريكا، وهي أن “هؤلاء أدلوا بدلوهم في هذه المسألة، حين استطلعت آراءهم صحيفة “لوس أنجلوس تايمز”، وهي تضع أمامهم السؤال القائل نفسه: هل صارت أزمة فيروس كورونا سبباً في القلق من تحول نظرة الدول الأخرى إلى أمريكا كقيادة عالمية؟
الكاتب الأيرلندي الشهير فينتان أوتول، تساءل: هل تسترد أمريكا مكانتها، من الموقف المخجل الذي وجدت نفسها فيه أمام كورونا؟، وقال: نحن لم نر مثل هذا الفراغ في قيادة العالم، منذ انهيار الإمبراطورية الإسبانية، في القرن السابع عشر. ولم يحدث أن وصلت مشاعر مضادة لأمريكا، كالذي بلغته في عهد ترامب، ووصلت إلى حالة تثير الأسى. ويقول باراج خانا، المستشار السابق للبنتاغون، إن ديناميكية القوة هي أساس قوة الدولة ومكانتها. فأين هذه الديناميكية فيما جرى من مواجهة كورونا؟ ثم إن صنّاع القرار في حقبة ترامب يتصرفون من دون أن يكون لديهم برنامج لعملهم. وفي الإطار نفسه، أثارت حملة “لوس أنجلوس تايمز” مؤسسات سياسية متعدّدة للخوض في هذه المسألة، منها كلية الشؤون الدولية والعلوم السياسية بجامعة نيوآرك، التي نظمت حواراً أكاديمياً تحت عنوان “نهاية قيادة أمريكا للعالم”، وتعدّدت آراء المشاركين، منهم من قال إن رؤساء أمريكا أمضوا قدراً كبيراً من قوتهم في العقود الأخيرة، في المناداة بقيادة أمريكا للعالم.. لكنهم يكثرون من الكلام. والبعض من المشاركين قال إن سياستهم الآن هي في فوضى، وفي تضعضع خطير. وإن بدايات ذلك كانت ظهرت قبل “كورونا”، وإن للقيادة العالمية مظهرين، أولهما أن تلك الدولة تكون هي الأقوى اقتصادياً، وعسكرياً، ويتوافر لديها أفضل تكنولوجيا متطورة، والثاني أن تكون لدى الدولة القائدة إرادة، وألّا تنتقص أو تقلّل من مكانة الآخرين، وأن تطلق نظرتها الممتدة للعالم بأكمله، إلى جانب نظرتها لمصالحها الخاصة.
وكما هو معروف فقد تعرّضت إدارة ترامب لمزيد من الخيبات على الصعيد الدولي، وخصوصاً من الحلفاء الأوروبيين الَّذين -كما يبدو- لم يعودوا مقتنعين بطريقة القيادة الترامبية للعالم الغربي، فقد ظهر من التصويت في مجلس الأمن في الملف الإيراني وقبله أن الأوروبيين لا يتعاطون اليوم مع الولايات المتحدة، كما كانوا يتعاطون معها في السابق، أي بصفة القائدة لعالم غربي، لا مجرد شريكة فحسب. ويمكن أن نذكر أن التعاطي الأوروبي مع ترامب في العام 2020 كان مليئاً بالخيبات، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: الدعم الأوروبي لمنظَّمة الصحة العالمية بعد إعلان ترامب انسحابه منها، وإعلان المفوضية الأوروبية أنها ستدعمها بالمال بعدما هدّد ترامب بقطع التمويل، رداً على ما سمّاه “انحياز المنظّمة إلى الصين”، إضافةً إلى الرفض الأوروبي القاطع لتهديداته بفرض عقوبات على شركات أوروبيّة، بسبب مساهمتها في مشروع السّيل الشّمالي 2، إذ اعتبر أن هذا الأمر يمنح روسيا استفادة جيوسياسية، في حين أنه يطالب ألمانيا بشراء الطاقة من الولايات المتحدة، ولو بأسعار أعلى.
لقد ساهمت سياسات ترامب وأسلوبه غير المنضبط وغير اللائق في الكثير من المناسبات، وشهرته بعدم احترام الدول الأخرى، من الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، في ضرب كل مكاسب الدعاية الأميركية للنموذج المتفوّق حضارياً وقيمياً، والذي دأبت هوليوود على نشره عبر العالم، لإقناع البشر بأن الأميركي متحضر بطبيعته، وأنكم جميعاً يجب أن تسلّموا بتفوّقه وتتركوا له قيادة العالم، لا بل أنكم جميعاً يجب أن تحاولوا تقليده. واليوم، يمكن القول إن الذين يرغبون في العيش في ظل نموذج أميركي يشبه ترامب أقل من الذين كانوا يرغبون بعيش النموذج الأميركي قبل أربع سنوات. إن شعوب العالم تنفر من النموذج الذي قدّمه عن بلاده. لقد هدّد ترامب الدول والمنظمات وعاقبها، وعاقب الأفراد، وشن الهجمات، وقتل بصورةٍ مباشرة الخصوم السياسيين، وقضى على الحريات في بلاده، وأوصل أميركا إلى حال مخيفة من التوتر المجتمعي، وقضى على الاستقرار الاجتماعي والأمني الذي كانت تتغنى به البلاد. إن شوارع الولايات الأميركية التي كانت خائفة من النزول إلى الاقتراع تُعتبر أوضح صورة عن أميركا اليوم. إنها إمبراطورية عنيفة لا تحترم الحريات، بل تقتل مواطنيها الملونين خنقاً في الشوارع، وهدّدت ميليشياتها بالقتال وبعدم تسليم السلطة. واليوم ومع ما اقترفه ترامب خلال فترة رئاسته، وإظهاره لصورة النظام الحقيقي في أميركا، فإن الأمور تسير على نحو سيئ، وربما تتحول دراماتيكياً إلى مصير قاتم.