رغم حملة القمع الأردوغانية.. احتجاجات “البوسفور” تتمدد
تتسع رقعة احتجاجات طلبة جامعة البوسفور (بوغازيتشي)، أعرق الجامعات التركية في اسطنبول يوماً بعد يوم، ومعها تتعاظم موجة القمع والاعتقالات، ما دفع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان لتحريك الجهاز القضائي لمعاقبة بعض المعتقلين بذريعة مقاومة السلطات، وهي ذريعة تتناغم في مدلولها مع أخرى استخدمها نظام أردوغان لاعتقال ومحاكمة ناشطين حقوقيين ومعارضين سياسيين وإعلاميين، ومنها: “دعم تنظيم إرهابي” أو “الدعاية للإرهاب” أو “اهانة الرئيس” وكلها أصبحت قوالب جاهزة لصناعة حكم قضائي.
وتقول مصادر محلية: إن الأمر يتعلق أساساً بخلق مناخ من الخوف، ودفع مناهضي سياسات أردوغان إلى الانكفاء، وأيضاً توجيه رسالة لمن يفكر في الاستمرار في التظاهر، إلا أن استمرار الاحتجاجات بعد نحو شهر من انطلاقها يشير في المقابل إلى أن المتظاهرين كسروا حاجز الخوف.
ودخلت الاحتجاجات مرحلة ليّ الأذرع بين سلطة ترفض التراجع عن قرار تعيين العميد مليح بولو المقرب من أردوغان، وبين محتجين يرفضون الاختراق السياسي والتعيينات بالمحاباة والمحسوبية.
وفي أحدث تطورات الوضع، أصدرت محكمة في اسطنبول اليوم الجمعة حكماً بالسجن ضد اثنين من طلبة الجامعة بسبب المظاهرات ضد تعيين مليح بولو، ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن المحامي أوزجور اورفا قوله: إن المحكمة أصدرت حكما بحبس أنيل اكيوز وهو طالب بجامعة ميمار سينان في اسطنبول وسيلان ديليبالتا بجامعة اسطنبول بتهمة “مقاومة مسؤولين أثناء عملهم ” خلال احتجاجات هذا الأسبوع.
والمعتقلان من بين 94 شخصاً تمّ احتجازهم يوم الثلاثاء الماضي في منطقة كاديكوي في اسطنبول عندما واجهت الشرطة المحتجين بقنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق مظاهرة سلمية.
وبحسب المحامي اورفان فإن الطالبين المعتقلين سيمثلان أيضا أمام المحكمة بسبب احتجاجات طلابية سابقة، كانا قد شاركا فيها، مضيفا “إنه قرار غير قانوني يهدف إلى ترويع الطلاب لإنهاء احتجاجاتهم”، معلنا أنه سيستأنف القرار خلال أسبوع.
كما أصدرت المحكمة بشكل منفصل حظرا على السفر ضد 21 شخصا “بسبب تنظيم مظاهرة بدون إذن”، وفق ما ذكرت وكالة الأناضول الناطقة باسم النظام التركي.
ومن غير المعروف أن يتراجع أردوغان، المعروف بعناده، عن قرار تعيين مليح بولو، فالتراجع يعني بالنسبة له خسارة معركة مفصلية في مسيرة مالت إلى النزعة الاستبدادية.
وكان أردوغان قد وجه تحذيراً صارماً لمن يسعون لتوسيع نطاق الاحتجاجات، مستحضراً قاموس العبارات ذاتها التي استخدمها في السابق لكتم الحريات وتصفية الحسابات مع خصومه، حيث وصف الطلاب المحتجين بأنهم “أعضاء في جماعات إرهابية” وهي تهم يسوقها في كل مرة تهتز الأرض تحت أقدامه بسبب أزمات داخلية منها المظاهرات المنددة والرافضة لسياساته.
وتشكل احتجاجات جامعة بوغازيتشي اختبارا لمدى قدرة أردوغان على كبح ثاني أكبر احتجاجات على سياساته بعد احتجاجات متنزه جيزي 2013 وكان حينها رئيساً للوزراء وهي الاحتجاجات التي سقط فيها قتلى وجرحى فيما تواصل السلطات إلى الآن ملاحقة نشطائها قضائياً.
ويرفض الطلاب وأعضاء هيئة التدريس تعيين أردوغان لمليح بولو، رئيسا لجامعة البوسفور (بوغازيتشي) في اسطنبول ويطالبون باستقالته، فيما يتمسك أردوغان بقراره غير عابئ بالانتقادات والدعوات الدولية التي تطالبه بالتوقف عن قمع الحريات وانتهاك حقوق الطلبة.
وقال معلقاً على تلك التظاهرات، التي اعتُقل خلالها العشرات في اسطنبول وغيرها من المدن الكبرى الخميس، وزعم: إن “الأحداث التي شهدتها بوغازيتشي غير مرتبطة بطلابنا”، مشيراً إلى أن “السياسة هي التي تحرّك ما يحصل… لن نسمح بأن يتم “بيع” الأطفال هناك إلى منظمات إرهابية”، حسب تعبيره.
وتوجّه في خطابه إلى الولايات المتحدة متسائلاً: “ألا تشعرون بالخزي حيال ما حصل بعد الانتخابات؟”، وقال متوجّها للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “لم يكن بمقدورك حل مشكلة احتجاجات (حركة) السترات الصفراء”، في إشارة إلى الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا في أواخر 2018، مضيفاً “لا مشكلات من هذا النوع لدينا هنا”، حسب زعمه.
وتأتي تصريحات أردوغان فيما تئن تركيا تحت وطأة مشاكل اقتصادية ومالية واحتقان اجتماعي كامن. كما أنها تأتي فيما تكابد تركيا لتهدئة التوتر مع الشركاء الأوروبيين والولايات المتحدة، مدفوعة بمخاوف من عقوبات قاسية قد ترهق الاقتصاد التركي وتدفعه إلى هوّة عميقة.
وتهز هذه الاحتجاجات عرش أردوغان وأركان حكمه، فيما يروج لدستور جديد يعكف على إعداده حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية، وسط تحذيرات من أن هذه الخطوة محاولة لزيادة نفوذه وتعزيز نهجه الاستبدادي.
وفي العام 2013، حين كان أردوغان رئيساً للوزراء، تعامل بالحديد والنار مع مظاهرات انطلقت احتجاجات على خطة معمارية لتغيير طبيعة منتزه جيزي، وهي الاحتجاجات التي قتل وأصيب واعتقل فيها العشرات. وحينها لم تكن منصات التواصل الاجتماعي بالفاعلية وقوة التأثير والحشد والتنظيم كما هو الحال الآن والتي تكشف لحظة بلحظة كل عمليات القمع والاعتقالات، بينما اعتمد نظام أردوغان سابقاً سياسة تعتيم مشددة.