ثقافةصحيفة البعث

“من لاوديسا الموج إلى نسائم الياسمين” في ثقافي أبي رمانة

“من لاوديسا الموج إلى نسائم الياسمين” العنوان المعبّر والحار، الذي حملته الأمسية الشعرية التي أُقيمت في المركز الثقافي العربي بأبي رمانة، بالتعاون مع ملتقى “الأبجدية العربية– أوغاريت”، وأدارها الأديب أحمد علي هلال، وشارك فيها ثلة من الشعراء القادمين من اللاذقية ومنهم: ياسر معلا، علي الشيخ عبيد، رامي سندران، خليل وسوف، عادل شاهين حسن، علي شاهين، هاني حسن، أمين غانم، ومن دمشق الشاعرتان باسمة قصاص وصفاء شاكر.

قُدّمت في الأمسية العديد من القصائد التي تنوّعت أغراضها وشواغلها الفنية، ما بين شعر الغزل والقصائد الملتزمة، المهداة إلى أرواح شهداء الجيش العربي السوري، فضلاً عن تنوع القصائد الشعبية /المحكية، بأغراضها وأدواتها الفنية المختلفة، قصائد مترعة بالتأملات الداخلية التي تفيض بها المعاني والدلالات الحسيّة الوجدانية العالية، وهذا ما فاضت به جوانيات الشاعرتين صفاء شاكر وباسمة قصاص بما قدمتاه من بوح داخلي أنثوي في تكوينه ومشاغله ومعانيه. أما الشاعر ياسر معلا فقد قدّم نصاً نثرياً بعلامة سردية لافتة، اعتمد فيه التقطيع “المونتاجي” القائم على كثافة الصور الشعرية الذكية، لتتبدى رهافة المفردات وعمقها من بين تلك الصور، وهي أكثر ميلاً لشعر الفكر والتأمل، أما الشاعر رامي سندران فقد ذهب نحو قصيدة نثر صافية، ذات سياق جمالي لافت بتشكيل الصور الشعرية القائمة على المفارقات البينية في طبيعة تشكيل مناخاتها، كان منها: (ومنا تساقط كلام الحياة/ حتى آخر حبة رمل في أرواحنا)، أيضاً غرّد الشاعر علي شاهين بمحكيات غزلية تدفقت بالغنائية الميالة إلى الغزل، مؤثراً القيم الغنائية في نصوصه المتدفقة، أما الشاعر عادل شاهين فقد قدّم بمحكيه الشعري صور الانتماء إلى الوطن والعائلة والأرض، وذلك بعاطفة لافتة وإحساس متقد، عبّرت عنه المعاني المبتكرة بما فاضت به دواخله الشعرية. وقد قارب الشاعر خليل وسوف بقصائده المحكية الحرب على البلاد إضافة لتقديمه قصائد أخرى، ذهبت إلى استجلاء فصاحة الجرح السوري، وذلك بنبرة شديدة الإيحاء مترعة بالتوريات، فيما ذهب الشاعر هاني حسن بما قدّمه من قصائد مشحونة بالعاطفة إلى موضوعة الحرب، وانعكاساتها الاجتماعية والإنسانية، مقيماً العشق دليله على ما انبعث من حروفه ومعانيه ومفرداته.

الشاعر والفنان أمين غانم قرأ من ديوانه الذي يحمل عنوان “بأخضر اقتحامها”، عدداً من القصائد المختارة التي تعلي من شأن التفكير شعراً، وذلك بما اشتملت عليه على المستوى التقني من أفعال التناص والحوار والمقابلات الدلالية، ومنها: (من أين لك هذه الحياة/ من أين لك هذا الموت) نصوص تنفتح على شعرية المعنى وشعرية الأسئلة، وذلك في بنيات فنية رشيقة الصور عميقة الدلالات، يقول الشاعر أمين غانم: (على وسن خطوة/ بهدر الظلال/ بوهج الدروب/ قافلة قفلت غروبها/ سحقت خطاها/ اليابس والنفور). ونقتطف من الشاعر ياسر معلا: (نركض حتى التعب/ نشهق حتى اليباس/ ثم يعمينا الغبار/ ونزهر في جنون العاصفة/ ثم نملأ المراكب بالحب/ نرسم جراحنا/ وأحدثكِ عن الحب/ وأرمي عليكِ قلبي/ وننتظر أناشيد الصباح).

الختام كان مع الشاعر علي الشيخ عبيد في قصيدته التي تشي استعاراتها ومجازاتها بالشعر الملحمي، في سياق يذهب إلى التاريخ والاستشراف ويعيد تأثيث المكان في الذاكرة الحالمة، يقول: (دعك مني/ أنا لست منك/ لا تأتني/ أنا ذاك المطل على شرفات الكون من رصيف/ هنا من أرض الأبجدية/ نهضت على ما اعتراها/ بحار/ ومن دمشق أجوب يثرب/ وبغداد من النقب/ ومن الجليل أعزف دمع زيتون/ وأسكب حوران/ كأس الشوق من عنب/ ومن الشام أصوغ درب مهجتك/ لتعوم البحر أشرعة الأفق).

وعن الأمسية الشعرية آنفة الذكر قال مدير الأمسية الأديب والناقد أحمد علي هلال: (من اللافت أن تلك القصائد بمستويات اختماراتها واختباراتها للتجربة الشعرية، مع تفاوت الأغراض الشعرية فيها، نهضت فيها التجربة الشعرية بمستوياتها الجمالية والدلالية، فالوطن كان القصيدة الكبرى التي جمعت لوحتها منمنمات الشعراء الذين فردوا أجنحة معانيهم الدالة من الخاص إلى العام، فجاءت قصائدهم حارة الشكل الفني والمضمون، ورغم تنوّع الأغراض الشعرية، فقد ظلّ الهاجس الشعري أصيلاً بما باحت به القصائد والمحكيات المختلفة، فثمة منها من تعلّلت قصائده بالمباشرة في الطرح، لكنها عموماً تذهب إلى حيوية الدلالات والمعاني بما ينسجم مع طبيعة الشعر وقيمه، والمباشرة هنا الأقرب إلى التلقائية، ظلت محكومة بموضوعها لكنها وشت أيضاً باكتناز خبراتها الجمالية، فالشكل فيها يتسق مع المضمون، فيما انفتحت قصائد النثر جنباً إلى جنب مع القصيدة الكلاسيكية على حقول الدلالة، والتوهج والكثافة، مع ميل الشعراء أكثر إلى الاقتصاد والسيولة في نصوص ذات حساسية مختلفة، وذلك في استدعائهم للفكر والفلسفة في سمات تصويرية وتعبيرية تفيض بدهشتها).

ومما يلاحظ في وفرة الأصوات المشاركة بوصفها جزءاً من مشهد يكابد الحرب وتجلياتها، هو الهاجس بالتقاط المعادل اللغوي والجمالي بعيداً عن الانفعال والاكتفاء بالعاطفة، إذ يختمر في أكثر النصوص ما يمكن أن نسميه بمحاولات وعي التجربة بالمعنى التراكمي، وهذا لافت، لكن ما يلفت أكثر هو أصالة الهاجس الشعري، وذلك في منظور تجربة راهنة وحارة، تقدّم القصيدة بوصفها استحقاقاً جمالياً لا لغوياً، تكتنف المعنى ويكتنفها.

تمّام علي بركات