الأمريكيون يستيقظون على عصر لم يألفوه من قبل
إعداد: علاء العطار
بعد أربع سنوات عجاف من ولاية دونالد ترامب، تستيقظ أمريكا من كابوس طويل لتكتشف أن العالم الذي عرفته ذات يوم قد تغيّر بصورة لا يمكنها إدراكها، مثلها في ذلك كمثل الشخصية الرئيسيّة في الحكاية التي حملت اسمه “ريب فان وينكل” للروائي الأمريكي واشنطن إرفينغ.
في تلك الحكاية الأمريكية الكلاسيكية التي نُشرت عام 1819، يتجوّل مزارع ودود عديم الحيلة خارج قريته للصيد في جبال كاتسكيل، ويصادف هناك مجموعة من الرجال الغامضين، يشاركهم الشراب من برميل خمر، فيغطّ في نوم طويل، فإذا به يستيقظ ليجد نفسه وقد نمت له لحية بيضاء حتى بطنه، وأن شبابه قد غاص في مستنقع الشيخوخة. وفي طريق عودته إلى القرية، اكتشف أن زوجته ماتت منذ زمن طويل وأن منزله بات أنقاضاً، في الوقت نفسه، لم تعد اللافتة الموجودة فوق حانة القرية، حيث قضى ساعات ممتعة طويلة، تحمل وجه ملكه المحبوب جورج، الملك البريطاني، بل استُبدلت بصورة شخص يُدعى الجنرال واشنطن، وأفسحت أحاديث السكارى داخل الحانة في أيام الاستعمار المجال أمام الدعاية الانتخابية المتحمّسة لشيء يُسمّى الكونغرس، اسم لم يسمع عنه قبلاً، إذ فات عليه أثناء نومه الثورة الأمريكية.
بينما كان هذا البلد يسير نائماً مثل وينكل، وهو يحلم بكابوس دونالد ترامب المسمّى “أمريكا أولاً”، ما فتئ العالم يتغيّر كما حدث خلال تلك السنوات السبع عندما قاتلت قوات الجنرال واشنطن الجيش البريطاني. ومثلما كابد الملك جورج هزيمة نكراء كلفته 13 مستعمرة، فقدت الولايات المتحدة الآن هيمنتها على المجتمع الدولي.
خلال السنوات الثماني التي سبقت تولي ترامب منصبه في عام 2017، بدا أن الولايات المتحدة تتكيّف مع بعض التحديات الخطيرة التي تواجه هيمنتها العالمية بعد الحرب الباردة، فبعد الأزمة المالية 2007-2008، وهي الأسوأ منذ الكساد الكبير، أنقذ برنامج تحفيز وضعه الحزبان صناعة السيارات في البلاد، وتعافى الاقتصاد الأمريكي تدريجياً. وبدا أن واشنطن لديها فرصة معقولة لكبح التحدي الاقتصادي العالمي المتمثل بالصين، إذ إن بكين استخدمت 4 تريليون دولار من احتياطيات النقد الأجنبي التي اكتسبتها بحلول عام 2014 من دورها الجديد كحلقة عمل عالمية، وأطلقت مبادرة الحزام والطريق التي تبلغ قيمتها تريليون دولار وتركز على جعل الكتلة الأرضية الشاسعة لمنطقة أوراسيا (وأجزاء من إفريقيا) في منطقة تجارية متكاملة- أي “جزيرة عالمية” حقيقية من شأنها أن تستبعد أمريكا، وتقوّض بالتالي قيادتها العالمية بشكل جذريّ.
وفي فترتي ولايته كرئيس أمريكي، اتبع باراك أوباما إستراتيجية موازنة خبيثة، سعياً إلى تقسيم جزيرة بكين العالمية المحتملة اقتصادياً عند المقسم القاري في جبال الأورال. كانت الشراكة عبر المحيط الهادئ التي خطّط لها أوباما، والتي استبعدت الصين عمداً، حجر الزاوية في إستراتيجيته لجذب تجارة آسيا نحو أمريكا، وبالتالي جعل مبادرة الحزام والطريق كقوقعة فارغة. صُمّم مشروع المعاهدة هذا، الذي كان من الممكن أن يتجاوز أي تحالف اقتصادي آخر باستثناء الاتحاد الأوروبي، لدمج اقتصادات 12 دولة من دول حوض المحيط الهادئ التي ولدت 40٪ من إجمالي الناتج العالمي- وكان من المفترض أن تكون الولايات المتحدة في قلبها.
ولتحويل التجارة بعيداً عن النصف الآخر من جزيرة بكين العالمية المحتملة، تابع أوباما المفاوضات بشأن الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار مع الاتحاد الأوروبي. كان اقتصاد الولايات المتحدة هو الأكبر في العالم، حيث يمثل 20٪ من إجمالي الناتج العالمي، وكان من المفترض أن تضيف المواءمة التنظيمية المقترحة بين أوروبا والولايات المتحدة 260 مليار دولار إلى إجمالي تجارتها السنوية. وكانت إستراتيجية أوباما الكبرى تتمثّل باستخدام هاتين الاتفاقيتين لإفشال خطط بكين عبر منح الولايات المتحدة حق الوصول التفضيلي إلى 60٪ من الاقتصاد العالمي.
واجهت جهود أوباما رياحاً عاتية معاكسة حتى قبل أن يغادر منصبه، ففي أوروبا، احتج ائتلاف معارض مكوّن من 170 مجموعة من المجتمع المدني على أن المعاهدة ستنقل السيطرة على تنظيم سلامة المستهلك والبيئة والعمالة من الدول الديمقراطية إلى محاكم تحكيم الشركات المغلقة. أما في الولايات المتحدة، فقد واجه مخطط أوباما انتقادات حادة حتى داخل الحزب الديمقراطي، وعارضت شخصيات نافذة أمثال السيناتور إليزابيث وارن التدهور المحتمل لقوانين العمل والبيئة عن طريق الشراكة عبر المحيط الهادئ. في مواجهة مثل هذه الانتقادات الشديدة، اضطر أوباما إلى الاعتماد على أصوات الناخبين الجمهوريين لكسب موافقة مجلس الشيوخ على قانون يمنحه “سلطة المسار السريع” لإكمال الجولة الأخيرة من المفاوضات بشأن المعاهدة، لكن ضمنت هذه المعارضة عدم الموافقة على أيّ من الاتفاقين قبل أن يغادر منصبه. ومع ذلك، كان ترامب هو الذي وجّه الضربة القاضية، فبعد تنصيبه مباشرة، اختزل المحادثات التجارية مع أوروبا، وانسحب من الشراكة عبر المحيط الهادئ، قائلاً: “سنوقف الصفقات التجارية السخيفة التي أخرجت.. الشركات من بلدنا، ولسوف نعكس تأثيرها”.
السياسة الخارجية أحادية الجانب
تبنّى ترامب إستراتيجية “أمريكا أولاً” أحادية الجانب التي سرعان ما أشعلت حرباً تجارية مكلفة مع الصين، وبعد عامين من الرسوم الجمركية المتصاعدة على جانبي المحيط الهادئ، والتي أضرّت بالاقتصاد الأمريكي، استسلم ترامب في كانون الثاني من عام 2020، ووقع اتفاقية ألغت أكثر الرسوم الأمريكية إضراراً مقابل تعهد بكين بشراء مزيد من السلع الأمريكية، ثم أشاد بصفقة التجارة “الكبيرة والرائعة” ووصفها بأنها انتصار عظيم، رغم أنها لم تكن إلا استسلاماً مخفياً على نحو رديء.
وفي حين بدا البيت الأبيض مهووساً بالمقامرة بعلاقاته الثنائية مع الصين، استفادت بكين من إستراتيجية أوباما العالمية، وتغلّبت على واشنطن من خلال السعي إلى اتفاقيتين تجاريتين متعدّدتي الأطراف، ففي تشرين الثاني عام 2020، قادت بكين 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ عبر توقيع شراكة اقتصادية إقليمية شاملة، واعدةً بإنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، تضمّ 2.2 مليار شخص وما يقرب من ثلث الاقتصاد العالمي. وبعد شهر واحد فقط، وقّع الرئيس الصيني شي جين بينغ اتفاقية تاريخية مع قادة الاتحاد الأوروبي من أجل تكامل أوثق لخدماتهم المالية. هذه الاتفاقية تمنح البنوك الأوروبية وصولاً أسهل إلى السوق الصينية. إن التحوّل عن واشنطن خطير للغاية على الولايات المتحدة، حتى إن مستشار الأمن القومي الجديد للرئيس بايدن، جيك سوليفان، حثّ علناً الناتو على التشاور أولاً مع الإدارة الجديدة قبل التوقيع على الصفقة- وهو نداء تجاهلوه ببساطة. وتمنح هاتان الاتفاقيتان الصين وصولاً تفضيلياً إلى ما يقرب من نصف التجارة العالمية (دون الأخذ بعين الاعتبار مشروع الحزام والطريق الذي لا يزال قيد التطوير).
انحدار وسقوط القوة العظمى
عندما تنحدر الإمبراطوريات وتسقط، نادراً ما تنهار بشكل مفاجئ كتلك التي صوّرتها سلسلة طويلة من اللوحات بعنوان “مسار الإمبراطورية” لساكن آخر من سكان جبال كاتسكيل، هو الفنان توماس كول، إذ تُظهر لوحاته التي تعود إلى عام 1836 في تلك السلسلة، الموجودة الآن في متحف سميثسونيان في واشنطن، “عدواً متوحشاً” ينهب عاصمة إمبراطورية كبرى يفرّ سكانها، الذين أفقرتهم سنوات العيش الباذخ، مذعورين بينما تُغتصب النساء وتُحرق المباني. لكن عادة ما تشهد الإمبراطوريات تدهوراً طويلاً وأقل دراماتيكية قبل أن تسقط على الطريقة الرومانية، وذلك بفعل الأحداث التي يصبح منطقها واضحاً فقط بعد سنوات أو عقود، بينما يحاول المؤرّخون فرز الأنقاض. لذلك من المحتمل أن تكون في ما كان يُعرف بأمريكا دونالد ترامب، حيث تبعثرت علامات التدهور في كل مكان.
أكثر نذير على هذا التدهور هو ترامب نفسه، جاء في مقال بعنوان “أربعة سيناريوهات لنهاية القرن الأمريكي بحلول عام 2025″، نشر قبل عشر سنوات، أن الهيمنة العالمية للولايات المتحدة لن تنتهي بانفجار مروّع، بل بفعل الخطاب الشعبوي الفارغ: “في مواجهة المدّ السياسي لخيبة الأمل واليأس، يستولي مواطن يميني متطرف على الرئاسة بخطاب مدوٍ، يطالب باحترام السلطة الأمريكية ويهدّد بالانتقام العسكري أو الانتقام الاقتصادي، لا يولي العالم له أي اهتمام بينما ينتهي القرن الأمريكي في صمت”.
بمجرد توليه منصبه، أحكم ترامب قبضته على البلاد (ولكن ليس العالم)، فمزّق التحالفات التي أثبتت جدواها، ومزق المعاهدات، وأنكر حقيقة تغيّر المناخ، وطالب باحترام السلطة الأمريكية بخطاب مدوٍ، وإن كان خطاباً أجوف، وهدّد بالانتقام العسكري أو الانتقام الاقتصادي على مستوى العالم، ناهيك عن ذكر استهتاره الشنيع بخطر جائحة كوفيد 19. وعلى الرغم من سياساته الفاسدة الواضحة، أذعن له الحزب الجمهوري، وصفق له كبار رجال الأعمال!. وبعد أن ظهرت نتائج انتخابات عام 2020 الأمريكية لمصلحة بايدن، وصفها ترامب بأنها مزوّرة، وأرسل حشوداً من القوميين البيض والترامبيين وغيرهم لاقتحام مبنى الكابيتول حيث كان الكونغرس يصادق على الانتقال إلى إدارة جديدة.
إضافة إلى ذلك، انهار جهاز الأمن القومي الأمريكي، حيث اخترق رجال الميليشيات اليمينية الطوق الأمني الهش حول مبنى الكابيتول، واقتحموا قاعاته كما لو كانوا عصبة من الغوغاء الذين يبحثون عن أعضاء الكونغرس. وبدت دعوات زعيم الأغلبية في مجلس النواب ستيني هوير اليائسة إلى البنتاغون المتلكئ، وتأخر حاكم ولاية ماريلاند لاري هوجان في تعبئة الحرس الوطني لولايته، بدت كمن يردّد صدى سيناريوهات الانقلاب التي شهدتها مانيلا، عاصمة الفلبين خلال الثمانينيات. وهنا بدت هذه الدولة التي تدّعي أنها استثنائية عادية بشكل كبير، ويبدو هذا البلد الآن ممزقاً ومتعباً.
على الرغم من قوتها الساحقة، يثبت في غالب الأحيان أن الإمبراطوريات هشّة بشكل مدهش، وأن تدهورها يجري في وقت أقرب بكثير مما يمكن أن يتخيّله أي شخص، ولاسيما عندما لا يكون السبب هو “عدو متوحش”، كما صوّر توماس كول، بل هي غرائزها المدمّرة للذات.
اليوم، في عهد بايدن البالغ من العمر 78 عاماً، يبدو أن الأمريكيين يستيقظون في عصر جديد لم يألفوه قبلاً، ويصعب عليهم أن يتكيّفوا معه بعد أن غزا الشيب لحاهم الطويلة!.