المكتبة الروحية بحلب.. سعادة الإنسان في ارتقائه!!
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
ما زال التاريخ الحلبي الحديث المعاصر يفتخر بحضور الكتاب في كل الأمكنة المتوقعة وغير المتوقعة، وما زالت المعالم التاريخية والأثرية شاهدة على هذا الحضور، ومنها مكتبات الكنائس التي لا تستغني عن الكتب لقيمتها الهامة، وكلماتها التي تنبت بين عقول الأجيال، بدءاً بمرحلة الطفولة مروراً بمرحلة اليفاعة والشباب وصولاً إلى الأعمار المختلفة.
وتبرز المكتبة الروحية بحلب كمكتبة متفردة بخصوصيتها ضمن جوقة هذه المكتبات المتنوعة، كونها بدأت بجهود خاصة ومبادرة شخصية موجهة بفائدتها للعامة، أسسها الأب الخوري يوسف جمل، عام 1956، لتكون مكتبة عامة للكنيسة، محققاً حلمه الذي بدأ معه مذ كان في مدرسة “القديسة حنة” في القدس، وتبلور هذا الحلم عام 1938، عندما ارتسم كاهناً في حلب، منطلقاً من مقرها الحالي بالعزيزية، عام 1968، بثلاثة آلاف كتاب من مقتنياته الخاصة باللغتين العربية والفرنسية، ثم بدأ يضيف إليها، ويقتني العناوين من داخل سورية وخارجها، ويستقبل من المتبرعين، لتكون جميع الكتب تحت تصرف القراء، إلى أن وصلت عناوينها لأكثر من 40 ألف عنوان بين العربية والفرنسية والإنكليزية.
ومنذ عام 1976، تابع الأب حكمت جاموس ما بدأه المؤسس يوسف جمل، وواصل منهجيته مستمراً في تحديث الكتب والأنشطة والفعاليات. وكذلك فعل الأب بيير المصري بعد سلفه جاموس، متابعاً الضوء الروحي في إدارة المكتبة التي أضافت لرفوفها صفحات على السوشال ميديا، وحولت مضمونها إلى مكتبة افتراضية، مبوّبة ضمن اثني عشر تصنيفاً: آداب ولغة، فلسفة، ديانة مسيحية، الإسلام وأديان العالم، علم النفس التربية، علوم اجتماعية، تاريخ وجغرافيا، سياسة واقتصاد، علوم طبيعية وطبية، فنون، قانون، مراجع عامة.
ومنذ تأسيس المكتبة ومبدأ الاستعارة قائم على قاعدة “ادفع ثمن كتاب واقرأ طوال العام”، ولا بد أن نذكر بأن عدد المشتركين بلغ الألف عام 1975، وازدادت استعارة الكتب مع جائحة كورونا، إضافة إلى القراءة الالكترونية.
والملفت أن مبنى المكتبة لوحة معمارية جذابة تذكّرنا ببيوتنا العريقة القديمة، بتوزيعه الداخلي الكلاسيكي، المطل بكليته على باحتها ونوافذها المشرعة على السماء والمطر والشمس والناس والكتب والتراتيل، والمشرعة، من منظور آخر، على الهدوء المحيط بالمكان، تماماً مثل الأشجار والنباتات وهي تتلفّت من سور المبنى الخارجي، أو وهي تفرح بقدوم الزائر ناثرة طمأنينة زرقاء في مكانها الداخلي المنسجم مع غرفه الموزعة إلى غرفة مطالعة، وغرفة للكتب بعناوينها ومواضيعها المتنوعة، وغرفة لكتب الأطفال، وغرفة للأفلام والتسجيلات والأرشيف الموسيقي، إضافة إلى الأقبية المنشغلة بعروض الأفلام، وألعاب الأطفال مثل الشطرنج والألعاب الحركية.
وتولي المكتبة أهمية للفعاليات والأنشطة الاجتماعية الأخرى مثل الرحلات والزيارات الأثرية والدينية، والورشات التثقيفية والقرائية، فتبدو وكأنها نادٍ ثقافي، كما تتمتع بمجال حيوي نشط تتكامل فيه الحياة الثقافية والروحية من خلال ما تضمه من كتب ثقافية وعلمية وفكرية وفنية وفلسفية ودينية مسيحية وإسلامية وأدبية وتاريخية وعلمية ومعرفية ونادرة يعود تاريخ بعضها إلى العام 1706، وجميعها مصنفة حسب محتويات المكتبة التي لم تنسَ الجرائد والمجلات والمجلدات.
وما إن تغادر المكتبة، حتى تسمع تراتيل جميلة ترددها الحجارة الأصيلة، كما تردد الأشجار حكمتها الدائمة: سعادة الإنسان تكمن في ارتقائه أخلاقياً، ثقافياً، علمياً، وروحياً؛ وهنا، يصطدم صوت هذه الحكمة مع صوت حكمة أخرى عابرة للعصور: “من عرف نفسه عرف الله”، ولنا أن نضيف لما قالتْه عرّافة “دلفي”: “ومن عرف الله عرف ما عليه وما له، وعرف ما له وما عليه”، لأن المعرفة لا تكتمل إلاّ بالفعل الذي علينا أن نقدّمه كواجب، قبل أن نطالب بما لنا!!