دراسات

الدولة العميقة ليست كل شيء

ريا خوري

نتيجة الطموحات التاريخية للولايات المتحدة الأمريكية على المستوى العالمي، نجد أن جميع الحكومات والإدارات الأمريكية المتعاقبة تنتهج السلوك نفسه تجاه القضايا الإستراتيجية الحساسة. إنّ المتابعة الدقيقة للمشهد السياسي الأمريكي- العالمي، تجعلنا ندرك حجم ومدى تنوّع وجهات النظر حول من هو الأفضل، هل هو الرئيس السابق عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب، أم الرئيس الجديد عن الحزب الديمقراطي جو بايدن؟.

لقد أنتجت مراكز الأبحاث ومؤسّسات الدراسات الإستراتيجية في الولايات المتحدة، وبعض مراكز الأبحاث في العالم، العديد من الدراسات والأبحاث التي تهتمّ بالعلاقات الأمريكية مع دول العالم، كما أقيمت الحوارات والنقاشات المطوّلة في الميديا بكافة تفرعاتها وتشكيلاتها في هذا المجال. لقد كان تقدير البعض أنه يجب ألا يتمّ تجاهل قوة الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وما تحوزه من قدرات تمكّنها من فرض رؤيتها وهيمنتها على الرئيس نفسه. بينما رأى الطرف الآخر أنه ليس من مصلحة أحد تضخيم قدرات الدولة العميقة، لأن معنى ذلك الاستسلام شبه الكلّي لفكرة مؤداها أن الأمر ليس في يد الرئيس الذي نتعامل معه مباشرةً.

الحقيقة يمكن لها أن تتجاوز هذين الرأيين، أو على الأقل تضيف إليهما رأياً آخر يفسّر دور كلّ منهما، فمهما كانت قوة الدولة العميقة، إلا أن سياسة الولايات المتحدة الخارجية، تحكمها قاعدتان قويتان بالغتا النفوذ والتأثير، أولهما فاعلية قوى الضغط، والثانية ميزان القوى.

ففي القاعدة الأولى الخاصة بميزان القوى، الكلّ يعرف أنّ السياسة الخارجية الأمريكية، تخضع لحسابات السياسات الداخلية -وهذا أمر محسوم- كما تخضع لضغوط جماعات المصالح وقوى الضغط. صحيح أن السياسة الخارجية الأمريكية هي تعبير عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة، والتي يمكن أن يتعدّل خط مسارها بما يعكس حقيقة هذه المصالح، إلا أنّ هذا التعديل لا يتحقق إلا بتأثيرٍ من الدول صاحبة المصلحة، وباستخدام قدراتها القوية الضاغطة، لموازنة تأثير قوى الضغط الأخرى.

أما القاعدة الثانية، فهي أي ميزان القوى، فترتبط بفاعلية كبيرة بدول العالم، والتي نصّت عليها صراحةً إستراتيجية السياسة الخارجية للولايات المتحدة المعلنة عام ٢٠٠٢ في فترة حكم الرئيس جورج بوش، بأنّها لن تسمح بوجود أيّة قوة منافسة إقليمية أو دولية في دول العالم الثالث، بحجة حماية مصالحها الإستراتيجية. وعلى الرغم من مرور ما يقرب من عشرين عاماً على هذه الإستراتيجية العنيفة، فإنّها راسخة في الفكر والعقل السياسي الأمريكي، المتأصلة فيه نزعة السيطرة والهيمنة على العالم، وهذا أمر معترف به في الولايات المتحدة ويتمّ التغنّي به يومياً ومحاولة الحفاظ على أحادية القطب في العالم. لكن هذه القاعدة ليست مطلقة، لأنه إذا ما تمكّنت الدول المستهدَفة من تعديل ميزان القوى لمصلحتها بامتلاك مقوّمات الإمكانيات والقدرات الداخلية، مثل بنية الاقتصاد التنافسي، فإنها لا شك ستقلب الطاولة على طموحات الولايات المتحدة. وهذا ما حدث بالفعل في تعديل ميزان القوى بين الولايات المتحدة من جهة، وبين الصين والهند من جهةٍ أخرى، وكذلك الدول الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية. ولعلّنا نلاحظ أنّ الصعود الصيني المتسارع تحديداً، الذي تجاوز تأثيره حدود آسيا إلى أنحاء العالم، كان وراء القلق والحذر الأمريكي من الصين.