دراسات

روسيا وأمريكا في عهد بايدن.. حبال من الاحتمالات

محمد نادر العمري 

احتل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مكانة فريدة لدى روسيا الاتحادية، إذ إنه الرئيس الأمريكي الأول في العصر الحديث الذي كان لديه خطاب سياسي إيجابي تجاه روسيا، رغم اتخاذه سياسات عقابية تجاهها خلال السنوات الأربع من حقبته، وهذا ما برز في تصريحين:

الأول: عندما امتدح ترامب نظيره الروسي علناً خلال منتدى الأمن القومي في 2016، ووصفه بأنه زعيم قوي، ويتمتع بسمات قيادية عظيمة في شخصيته، وحتى بعيداً عن تصريحاته الصادمة إزاء شخص الرئيس بوتين، أو حتى إزاء النظام الروسي ككل، كانت لترامب العديد من المواقف التي تبدي في ظاهرها تضامناً وتأييداً لروسيا، من ضمنها أن ترامب دعا لعودة روسيا لقمة الثماني، وضغط لأجل إقناع الدول الأعضاء بقبول عودتها من دون الاضطرار للتنازل عن القرم.

الثاني: عام 2017، بعد لقاء ترامب الشهير مع قناة “فوكس نيوز“، لم يكتف بالتعبير عن احترامه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين فحسب، لكنه أيضاً دافع عنه بشدة عندما سئل عما سمته القناة “جرائم بوتين”، مبرراً أنه حتى الولايات المتحدة الأمريكية هي أيضاً بدورها ارتكبت العديد من الفظائع، وعلى حد قوله: “لدينا الكثير من القتلة، هل تعتقد أن بلدنا بريء للغاية”؟!

كما أن سلوكيات ترامب المتناقضة والمتهورة في بعض الأحيان كانت تصب لصالح الدور الروسي في الشرق الأوسط، والعديد من الخرائط الجغرافية التي يتضمنها النظام الدولي، وتجاه قضايا متعددة لها أبعاد جيواستراتيجية، كالصحة والبيئة والتسلّح وإدارة الأزمات والأمن.

في المقابل كان الخطاب السياسي، لاسيما الانتخابي للرئيس الجديد جو بايدن خلال حملته الانتخابية، يتسم بالحدية والخصومة عندما قال بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستبد مثل رئيس كوريا الديمقراطية، كما أن العلاقات الروسية الأمريكية شهدت في الفترة التي كان بها بايدن نائب الرئيس الأمريكي أوباما تدهوراً كبيراً نتيجة قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم إليها من أوكرانيا عام 2014، وفي أواخر تشرين الأول 2020، وصف بايدن روسيا بأنها التهديد الرئيسي للأمن القومي الأمريكي، ومازال بايدن يعتقد أن روسيا أوصلت ترامب إلى سدة الحكم من خلال التدخل في سياسة أمريكا الخاصة، وهذا الأمر سبب هزيمة الديمقراطيين عام 2016، وأوضح بايدن أيضاً خلال حملته الانتخابية أنه يريد العمل مع روسيا فيما يخص المعاهدات مع الولايات المتحدة، أهمها الحد من الترسانة النووية فيما بينهما، ومعاهدات أُخرى بشأن الأسلحة، ومازال يعتبر أن سحب القوات الأمريكية حول العالم انتصار لمخططات روسيا والصين، وإيران في الشرق الأوسط، وكذلك انتصار لأعداء الولايات المتحدة في أماكن النفوذ الأخرى، لذلك سيحرص على إعادة إحياء استمرار تواجد القوات الأمريكية في ساحات التوتر حول العالم، الأمر الذي يضع العلاقات الأمريكية الروسية بين عدة احتمالات لانعكاس سياسة الرئيس بايدن على روسيا:

أولهما: توتر العلاقات بين موسكو وواشنطن، وقد يكون ذلك من خلال سعي بايدن للعمل على وضع حد لترسانة روسيا النووية، والاختلاف على موضوع الأسلحة فيما بينهما، وزيادة العقوبات الاقتصادية تحت ذريعة التدخل الروسي في الانتخابات السابقة التي أدت إلى هزيمة الديمقراطيين ونجاح الجمهوري ترامب، فضلاً عن زيادة المطالب “بمحاسبة” موسكو نتيجة ما سمي بالهجمات السيبرانية على الأجهزة الحكومية الأمريكية، وقيام موسكو باعتقال المعارض الروسي نافالني، وهو ما لفت له بايدن في خطابه الأول حول السياسة الخارجية الروسية بالقول: “إن سجن المعارض الروسي أليكسي نافالني وقمع التجمعات مبعث قلق لنا، وينبغي إطلاق سراح نافالني بشكل فوري وغير مشروط”، وفي هذه الحالة من الممكن أن تكون العلاقة في حالة من التنافس أقرب إلى الحرب الباردة، خاصة فيما يتعلق بالتطور العسكري بينهما، وزيادة نفوذهما في العديد من الأزمات الدولية في العالم، وستشهد الفترة القادمة منافسة قوية بين روسيا والولايات المتحدة في ملف سورية وإيران، وشكل الحكم في فنزويلا، لذلك على الأغلب ستبقى روسيا دولة ندية للولايات المتحدة بسبب تصريحات بايدن السلبية، وهو ما سيترك تداعيات سلبية على طبيعة العلاقات الدولية المهترئة في الأساس.

الاحتمال الثاني هو تحسن العلاقات مع روسيا أو المحافظة على شكلها القائم اليوم، ويكون ذلك من خلال قيام إدارة بايدن بالاتفاق مع روسيا على تسوية العديد من الملفات، أبرزها الحد من الترسانة النووية فيما بينهما، ومعاهدات أخرى بشأن الأسلحة، وهو ما ترجم بعد الاتصال الأول بين الرئيسين بايدن وبوتين حول التوصل إلى “اتفاق مبدئي” لتمديد معاهدة “نيو ستارت” للحد من الترسانة النووية لمدة خمس سنوات التي انتهت صلاحيتها في الخامس من شباط الجاري، بالإضافة إلى ملف سورية، والاتفاق على وضع ملامح للحل السياسي، والمرونة في معالجة الملف النووي الإيراني، وملفات دولية أخرى، ومن الممكن أن تحقق تحسناً في العلاقات فيما بينهما، إلا أن هذا الاحتمال غير وارد في المرحلة القادمة في ظل التقارب المؤسساتي بين جو بايدن ومؤسسات الدولة العميقة التي تعتبر روسيا عدواً تاريخياً لا يجب التعاون معه.

أما الاحتمال الثالث فهو أن نشهد مزيجاً من الحالتين السابقتين بين القوتين الكبيرتين في النظام الدولي، لاسيما مع بروز عدة مستجدات شهدتها الفترة الأخيرة واللاحقة لوجود بايدن في الإدارة الأمريكية السابقة “2012-2016″، وبخاصة من حيث زيادة الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط سياسياً وعسكرياً، وزيادة التعاون الذي وصل لحد التحالف الاستراتيجي بين روسيا والصين، وتوقيع اتفاقيات ومعاهدات بقيمة 400 مليار دولار، في إطار مواجهة الهيمنة الأمريكية، وتفادي العقوبات، وجذب باقي الدول للتعاون مع التحالف الناشىء حديثاً، كما أن موازين القوى العسكرية والسياسية لم تعد ثابتة كما كانت عليه في نهاية 2016، حيث شهدت مفاعيل هذه الموازين، في هذين المجالين تحديداً، تغييرات لصالح روسيا برزت في تعابير واضحة من خلال امتلاك القيادة الروسية لمنظومة صواريخ دفاعية وهجومية وعابرة للقارات تتجاوز سرعة الصوت مثل “اس 600″ و”تسيركون” و”سويرز”، وهي أكثر تقدماً من نظيرتها الأمريكية، باعتراف الأمين العام للحلف الأطلسي “ينس ستولتنبرغ”، فضلاً عن تطور أشكال المواجهة وتعدد أساليبها بما فيها “الحرب السيبرانية” التي تفوقت بها موسكو مؤخراً، لذلك فإن الاحتمال الثالث هو الأقرب وإن تخلله شيء من التصعيد الكلامي، والاتهامات المتبادلة، وبعض التغيرات في التكتيكات، فهو أقرب للتطبيق الواقعي لعدة أسباب:

1- هناك ملفات وساحات صراع لا تستطيع كلا الدولتين حسمه دون التعاون بينهما، لذلك فإن هذه الساحات قد تشهد تصعيداً ولكن ضمن إطار مضبوط.

2- هناك العديد من الملفات التي تؤرق الإدارة الجديدة وهي بحاجة لمعالجتها، وبخاصة على صعيد السياسة الداخلية، وإعادة توطيد العلاقة مع الحلفاء الكلاسيكيين.

3- التحديات المشتركة ما بين الجانبين كمواجهة كورونا، والتداعيات الاقتصادية، وانتشار ظاهرة الإرهاب، والملف المناخي، والأهم الحد من التسليح، والتعاون في مجال ضبط برامج التسلّح النووي.