أين تقف ثقافتنا العربية في ظل متغيرات هذا العصر؟
سؤال يطرح نفسه دائماً وللإجابة عنه لا بدّ من أن نؤكد مجموعة من الحقائق، منها: أن ثقافتنا العربية تؤمن بضرورة التطوّر لأنها منفتحة على الثقافات المختلفة وتأخذ منها وتعطيها، كما أن الثقافة العربية لا تعيش بمزاج عصر سابق، ولا تتقبل مزاجاً أجنبياً تنصهر فيه، ولكنها تجعل من جذورها مرآة لاندفاعها نحو الكمال، وتؤمن كذلك بأن التوقف ضد طبيعة الحياة، وذلك لأنها تملك قدرة على الانطلاق والتجدد من دون أن تفقد عامل الوحدة والارتباط بالماضي، وهكذا ستظل قادرة على تشكيل نفسها حسب حاجات العصر واختلاف البيئات دون أن تتخلى عن قيمتها ومقوماتها الأساسية.
إذاً، هل استطاعت ثقافتنا العربية الوقوف أمام تيارات الفكر المتشعبة؟ وإذا صح ذلك فإلى أي مدى تحقق لنا هذا الحد من الانحراف وراء تلك التيارات الفكرية؟ وهكذا إذا أردنا أن نتحدث عن آفاق التطور الثقافي في وطننا العربي سنرى أن هذا التطور يتزامن مع التطورات الأخرى في تنظيم المجتمع والفكر العربي، وإذا كانت الثقافة وتطورها وثيقة الصلة بكل ما في المجتمع من جوانب حضارية، فإن تأثيراتها الإيجابية تظهر واضحة في التكامل البنائي لهذا المجتمع، وينعكس هذا التكامل سلباً وإيجاباً حسب مراحل التطور الفكري والثقافي، ومن هنا يأتي دور تأصيل الثقافة، وتظهر هذه الأهمية حين يتعمّق التأصيل الثقافي في الإنسان نفسه، وهنا يطرح السؤال نفسه مجدداً: أين مكانة الفرد من الثقافة؟.
لابدّ أن نشير إلى حقيقة أزلية، أن مكانة الفرد في الثقافة العربية كانت وما زالت حتى يومنا هذا محوراً للعمل الجماعي، وظلّ الاتجاه إلى الجماهير الشعبية منذ القدم لتسيير الثقافة والانطلاق بها إلى الامتداد الأرضي هو الهدف، وهكذا تشكّلت المعادلة الحادة التي تقول (إن الثقافة لا تكون صادقة إلا إذا كانت وتراً مشدوداً بين ما ينزع إليه الفرد من طموح وإبداع وما تحتاج إليه الجماهير من وعي)، وإذا كانت هذه المعادلة التي نتجت عنها، فإن كثيراً من الإشارات التاريخية والزمنية تتوقف عند زحف الاستعمار على منطقتنا العربية بكل أشكاله، وثبت من خلال الدراسة والمعاناة والمعايشة أن الاستعمار الثقافي كان يسعى دائماً إلى بتر المثقفين العرب عن ثقافتهم الأصلية وربطهم بقيم الحضارة الغربية، وإقناعهم أن هذه القيم هي حقائق إنسانية مطلقة.
وإذا كانت ثقافتنا العربية قد تخلّفت عن ركب الحضارة، فهذا يعني أن هذه الثقافة لا تستطيع مسايرة التطور والتقدّم، وهكذا بدأت معادلة أخرى ترتسم في أذهان الأجيال، واقتراباً من هذه المعادلة يصبح المجتمع غير قادر على التحرّك باتجاه فكري أصيل، وعليه أن يتقوقع وأن يتشقق من الداخل، وتبقى المسألة خطيرة حينئذ، وذلك أن الانحلال التدريجي سوف يأكل المجتمعات الصغيرة ولا يبقي عليها، وبذلك تنعكس آثار هذه المعادلة بشكل سلبي لا يصدق.
إن ثقافتنا العربية على مرّ العصور أثبتت أنها قادرة على ملء الفراغ حتى في حالات الانحطاط والسقوط، وظلت كذلك تنير الدروب المعتمة أمام الباحثين والدارسين والمستشرقين، وأثبتت لهم أن هذه الثقافة هي الوسيلة والركيزة لإعادة لملمة الوطن العربي وتجديد نشاطاته في الوحدة والانبعاث والتقدم.
د.رحيم هادي الشمخي