من البترودولار إلى البترويوان.. انقلاب سوق نفط الغد
إبراهيم احمد
ذات مرة، قال وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر “إذا تحكّمت في النفط، فيمكنك التحكم في جميع البلدان، وإذا تحكمت في العملة، فإنك تتحكم في العالم بأسره”.
هذه المقولة تلخص فلسفة القوة لدى بعض النخب التي تختبأ وراء الستار وتقوم بتشكيل السياسة الخارجية والداخلية للولايات المتحدة. بناءً على هذا التفكير الاستراتيجي، شجعت ادارة ترامب بعد توليها مقاليد السلطة بقوة على عمليات التنقيب عن النفط في الولايات المتحدة، حيث تفوقت على روسيا لتصبح أكبر منتج للنفط في العالم وستصبح قريباً أكبر دولة مصدرة له. وقد أدّى ذلك إلى تغيرين رئيسيين في خريطة الطاقة العالمية: أولاً، أدى استغلال الزيت الصخري إلى رفع التقديرات للاحتياطات النفطية. ثانياً، تعمل الصين التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة على تطوير مصادر جديدة للطاقة وتسعى جاهدة للتخلص من الاعتماد على الطاقة الأحفورية مثل النفط والفحم.
في آذار 2020، قامت الصين بفتح سوق العقود الآجلة للنفط الخام في شنغهاي مع تدشين مركز شنغهاي الدولي لتجارة الطاقة، وهو ما يعد حدثاً بارزاً حيث يعني من زاوية نظرية بأن عصر احتكار “البترودولار” لعملية توجيه سوق السلع الرئيسية وسوق النقد قد انتهى، وبدأ عصر جديد يلعب فيه “البترو يوان” دوراً مهماً في النظام الدولي الجديد. وقد أشارت وسائل إعلام أجنبية إلى أن توقيت إدخال الصين لعقود النفط الخام المقومة باليوان قد تزامن مع النزاعات التجارية بين الصين وأمريكا، لكن في الحقيقة إن الصين قد ظلت تعدّ لهذه الخطة منذ 20 عاماً.
و “البترويوان” هو مصطلح جديد بدأ بالتداول في الاوساط الاستثمارية، بمعنى بيع النفط عبر اليوان الصيني، وهو المرادف لمعادلة البترودلار القائم على بيع النفط بالدولار، مصطلح أثارته المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة الامريكية والصين على الاقتصاد العالمي كان آخرها مساعي الصين لمنافسة عقود النفط الامريكية التي يستخدم فيها الدولار على مستوى العالم وتدشين عقود نفط مقومة بعملة الصين المحلية ويمكن من خلالها تحويل قيمة اليوان إلى ذهب.
بالنسبة للصين، يعدّ إدخال العقود الآجلة للنفط خطة متوافقة مع الاحتياجات التنموية للاقتصاد الصيني، وهو ما يمثّل انعكاساً طبيعياً لمكانة الصين في تجارة النفط العالمية وتجسيداً لقوتها الشاملة. ومن المعلوم أن انتهاء حاجة الولايات المتحدة لاستيراد النفط، سيقّوض أساس الدولار الأمريكي كعملة لتسوية النفط مما سيدفع الدول المنافسة للولايات المتحدة في انتاج النفط إلى البحث عن عملة بديلة للتسوية. وبفضل امتلاكها منظومة صناعية متكاملة وقدرتها على انتاج معظم الضروريات والمنتجات الصناعية، تعد الصين البديل الأفضل. لذلك فإن تدويل اليوان هو نتيجة حتمية لتشكل النظام الاقتصادي العالمي الجديد. لكن طرح “البترويوان” لا يعني استبدال الدولار الأمريكي، بقدر ما يعني التحوط من المخاطر التي قد تترتب عن انهيار البترودولار.
طبعاً لا يمكن أن نتوقع تزعزع منظومة “البترودولار” خلال فترة قصيرة، لكن هذا الاتجاه أصبح أكثر وضوحاً في الوقت الحالي، ويبدو أن السياسيين الأمريكيين قد انتبهوا إلى ذلك وباتوا يشعرون بالقلق. كما تثير مختلف أشكال العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على الدول الرئيسية المنتجة للنفط فكرة تخلص هذه الدول من السيطرة الأمريكية. وهو ما قد يدفعهم نحو بورصة شانغهاي للنفط الخام الآجلة المقومة باليوان.
يشهد تسعير النفط في التجارة العالمية خلال الوقت الحالي اتجاهاً نحو التراجع عن “البترودولار”، حيث يميل نحو جانب المشتري والتنوع، لكن يبقى من السابق لأوانه الحديث عن نهاية “البترودولار” أو الحديث عن بداية عصر استعمال “البترو يوان”. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن “البترويوان” سيؤثر بشكل فعال على نظام “البترودولار” الحالي ويعزز تنويع النظام النقدي العالمي، وبالتالي تسريع عملية تدويل اليوان. مما سيعزز تدفق المزيد من الاستثمارات على الاقتصاد الصيني.
لقد جاء اتساع نطاق العقوبات الأمريكية، الذي تجّسده جهود جديدة لخفض صادرات النفط الإيرانية “إلى الصفر”، الذي يشمل أيضاً تدابير ضد دول تشمل روسيا وفنزويلا وكوريا الديمقراطية، وبدرجة أقل الصين والاتحاد الأوروبي، ليكون أحد العوامل وراء “تراجع استخدام الدولار كعملة رسمية”، في الوقت الذي تسعى فيه البلدان إلى خفض انكشافها أمام الدولار، وفقاً لشركة إنفستك لإدارة الأصول، وهو صندوق بقيمة 134 مليار دولار. بالتالي يمكن تصور أن يكون صعود “اليوان” هو “قصة الدورة المقبلة” بفضل اقتران التحولات السياسية والاقتصادية والهيكلية، بحسب ما تتوقعه شركة كبيرة لإدارة الأصول، في ظل تراجع استخدام الدولار جراء العقوبات. وتستشهد الشركة بحقيقة أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة كأكبر مستورد للنفط في العالم، كعامل ثالث. وكما هو معروف فإن أحد أسباب الهيمنة التاريخية للدولار هو التسوية النفطية الأمريكية في السبعينيات، حين كانت الولايات المتحدة في صدارة المنتجين، فتم التوافق على تسوية فواتير النفط مقومة بالدولارات النفطية أو ما عرف حينذاك بـ”البترودولار”، الأمر الذي عزز شبكة التجارة والتمويل القائمة على الدولار. والآن تفضل الصين تسوية فاتورتها التجارية بـ ما يسمى “الرنمينبي” إن أمكن. وبالفعل بدأت شركات النفط في روسيا وإيران وفنزويلا منذ فترة قبول “الرنمينبي” كمدفوعات للواردات الصينية. وارتفعت حصة “الرنمينبي” من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية “بعد استبعاد احتياطيات الصين نفسها” إلى مستوى قياسي بلغ 2.5 % العام الماضي، من نحو 1.5 % قبل 12 شهراً، وفقاً لحسابات مورغان ستانلي “مرة أخرى، أقل بكثير من نسبة 62 % للدولار و20.5 % لليورو”. مع ذلك، فإن تنويع موسكو من الدولار إلى الرنمينبي في أعقاب العقوبات الأمريكية، يلائم بدقة العالم متعدد الأقطاب الذي تتخيله شركة إنفستك بنك: يو بي إس بشكل متزايد.
يشار إلى أن منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم الصين وروسيا والهند وباكستان وأوزبكستان وطاجكستان وقيرغيزستان وكازاخستان، هي المنظمة الأكثر أهمية في العالم اليوم. عدد سكان هذه البلدان يشكّل 45 % من سكان العالم. ستعلن منظمة شنغهاي للتعاون عن نظام للدفع بغير الدولار في مرحلة ما، وعندها لن يستطيع أحد أن يفرض رأيه عليها، لأنها تستطيع الوصول إلى سوق مالية يمكنها التحكم في أسواق السلع. إضافة لوجود مركز مالي في هونغ كونغ. علاوة على خطوات صينية أخرى تتمثل في شراء المزيد من الشركات المنتجة للذهب آخرها شركة “غولد فيلد” الغويانية في أمريكيا الجنوبية. ومع شرائها للعشرات من شركات ومناجم الذهب في أفريقيا قبل ذلك أضحت بكين أكبر منتجي المعدن الأصفر بكمية تقارب 500 طن في السنة مقابل نحو 210 أطنان للولايات المتحدة. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الصين ليست تقليدياً من البلدان المخزنة للذهب الذي يعد إلى جانب ناتج محلي إجمالي قوي أفضل ضامن لاستقرار العملة، فإن السيناريو المرجح من وراء ذلك يقول بأنها تعد العدة لدعم التعامل الدولي بعملتها من خلال احتياطي ذهبي كبير واقتصاد يصعد بسرعة لاحتلال موقع الصدارة في العالم. ويدعم هذا الرأي قول فانغ هاي شينغ، رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية: اعتماد الصين على “النظام القائم على الدولار يجعلها عرضة للخطر”.
منافسون لصندوق النقد الدولي
هذا الانكشاف للخطر دفع بكين أيضاً إلى إطلاق بورصة عالمية في شنغهاي لتداول عقود النفط بالعملة الصينية اليوان اعتباراً من أوائل عام 2019، وتشكل هذه الخطوة ضربة قوية لاحتكار نظام “البترودولار” لصالح نشوء نظام “البترويوان”. ووقعت الصين أيضاً على اتفاقيات مع روسيا وتركيا وإيران والهند ودول آخرى لتعزيز تبادلاتها التجارية بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار. هذا وأطلقت بكين مع دول البريكس الأخرى من شنغهاي “بنك التنمية الجديد” برأسمال يزيد على 100 مليار دولار لتعزيز استثمارتها المشتركة وتحقيق المزيد من التوازن في المعاملات الدولية. كما أطلقت من بكين في عام 2014 “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” الذي تشارك برأسماله حالياً نحو 60 دولة ويزيد رأسمال البنك على 100 مليار دولار ويتوقع أن يكون خلال السنوات العشر القادمة منافساً قوياً لصندوق النقد الدولي الذي تتحكم الولايات المتحدة وحلفائها في قراراته بحكم ملكيتها لغالبية الحصص فيه. ويعزز هذا التوجه المالي الصيني العالمي اقتصاد يصعد بسرعة ومشروع طريق الحرير الجديد “حزام واحد- طريق واحد” باستثمارات ضخمة تشمل ستين بلداً حتى الآن.
لقد أظهرت أزمة كورونا فشل الإدارة الأمريكية في مواجهة تبعاتها على الاقتصاد وسوق العمل مقارنة مع دول أخرى كألمانيا والصين. وعلى ضوء هذا الفشل يتوقع كبير الاقتصاديين سابقاً في مؤسسة “مورغان ستانلي”، ستيفن روتش “انهياراً قريباً في قيمة الدولار بنسبة قد تصل إلى 35 % خلال العام 2021”. ويعزز هذا الوضع الجديد القدرة الصينية على كسر احتكار الدولار إذا ما تجرأت بكين على تعويم عملتها وطرحها للتبادل التجاري الدولي بسعر مستقر. غير أن حصول مثل هذا الانهيار في قيمة الدولار يعني أيضاً أن دوراً أقوى في التعاملات الدولية بانتظار اليورو في حال تمكنت ألمانيا وفرنسا من دفع خطوات التكامل السياسي والأمني الأوروبية وتحقيق المزيد من الاستقلالية عن واشنطن بهذا الشأن. الجدير ذكره أن دوراً أقوى لليورو وللجنيه الاسترليني والين الياباني والروبل الروسي لا يبدو متعارضاً مع التوجهات الصينية التي لا ترمي للقضاء على دور الدولار بقدر ما ترمي إلى تحجيم هذا الدور بشكل يتناسب مع دور الولايات المتحدة في التعاملات التجارية الدولية. ويعود الحرص الصيني على عدم تحطيم دور الدولار إلى احتفاظ بكين باحتياطات دولارية هائلة تزيد على 3 تريليونات منها أكثر من 1.1 تريليون دولار استثمارات صينية في السندات الأمريكية.
الوطن العربي وكسر احتكار الدولار
سيؤدي كسر احتكار الدولار للتعاملات التجارية إلى تراجع الطلب عليه بشكل يؤدي إلى انخفاض سعره وقيمته. ومما يعنيه ذلك أن خسائر ستلحق بالدول العربية التي تتحوط بالدولار إسوة بغيرها من دول العالم. غير أن أكبر الخسائر ستلحق بدول الخليج والعراق ومصر التي وضعت جل احتياطاتها بالعملة الأمريكية وربطت عملاتها بها لأسباب جيوسياسية. أما الدول المغاربية فستكون في وضع أفضل على صعيد تحمل الخسائر لأن احتياطاتها بالعملات الصعبة موزعة بين اليورو والدولار بالدرجة الأولى بحكم علاقاتها التجارية التي تتم بنسبة تصل إلى الثلثين أو أكثر مع أوروبا. أما على صعيد المنافع فإن قيام نظام تعاملات تجارية ومالية عالمي يقوم على التعددية أو على الدولار واليوان واليورو والجنيه والين والروبل يؤسس لتكافؤ أفضل في فرص التجارة،لاسيما وأن الصين أضحت أهم شريك تجاري لغالبة الدول العربية. كما أن نظام دفع عالمي بعملات متعددة يحمي الجميع من الارتهان لعملة واحدة ولتقلبات سعرها في السوق الدولية. كما يحميها من التعرض لعقوبات أحادية الجانب تحرم شعوبها حتى من الغذاء والدواء. الجدير ذكره هنا أن القوة الشرائية لدولار منتصف سبعينات القرن الماضي تعادل قوة 40 دولار اليوم.
ليس هناك شك في أن “البترويوان” سيؤثر بشكل فعال على نظام “البترودولار” الحالي ويعزز تنويع النظام النقدي العالمي، وبالتالي تسريع عملية تدويل اليوان. مما سيعزز تدفق المزيد من الاستثمارات على الاقتصاد الصيني، وهذا الاتجاه لن يتغير بارادة الولايات المتحدة. وكما قال جيمس ريكارد مؤلف كتاب “الموجة القادمة من الحرب النقدية العالمية”، “بعد مرور 43 عاماً، بدأت العجلة تتراجع إلى الخلف، وفقد العالم الثقة في الدولار”.