الدولة الأمريكية تفقد الثقة بمؤسساتها
ريا خوري
من سمات الدولة ومميزاتها في الولايات المتحدة الأمريكية أنها ترتكز على أساس صلب يعطيها الرصانة والقوة والتميّز، فهي تجمّع سياسي يؤسّس كياناً متكاملاً ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي وجغرافي محدّد، ويمارس السلطة والحكم عبر منظومة من المؤسّسات الدائمة، التي تكوّن العمود الفقري للدولة.
من هنا نجد أنّ المؤسّسات في النظام السياسي الأمريكي متعدّدة ولها مسؤولياتها الخاصة بها، ولها خصائص ونظم عمل تختلف عنها في الدول الأخرى، أي لا يوجد هذا النظام في دول أخرى، إن كانت متطورة أو دول العالم الثالث، وهي تعمل وفق قاعدة التوازن بين السلطات الحاكمة، نظراً لعدد مراكز صنع القرار.
هذه المؤسّسات لم تكن منفصلة أو منعزلة تماماً عن بعضها البعض، بل يربطها نظام معقّد كي تبقى مسيطرة بقوة على مقاليد الحكم، وهي تتمتّع بمظهرين، الأول: ما هو ظاهر للعيان، والثاني: ما قد يكمن في خلفية المشهد، وهو أمر خاص بكبار القادة، يجمعهما فكر سياسي وإستراتيجي مشترك.
الخطيرُ في الأمر أن تصل الحال في اللحظات الأخيرة للرئيس السابق دونالد ترامب في السلطة، وصولاً إلى مرحلة تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن، إلى ظهور الشكوك من الدولة بمؤسّساتها المتعدّدة المهام، أو على أقل تقدير في بعض مؤسساتها السيادية. اتضح ذلك في البلاغات والتقارير التي قدّمتها أجهزة المخابرات الأمريكية، وأيضاً مكتب التحقيقات الفيدرالي عن توقعهم لهجوم داخلي عنيف، من بعض عناصر أجهزة الأمن ذاتها، والمكلّفة بتأمين حفل تنصيب بايدن، ثم قيام أجهزة مكتب التحقيقات الفيدرالي بالتحقّق من عدم وجود أيّة شكوك في جميع أفراد الحرس الوطني البالغ عددهم نحو خمسة وعشرين ألفاً، والمكلفين بتأمين العاصمة واشنطن وحمايتها والتأكّد من حدوث أية اختراقات أمنية في صفوف الشرطة أنفسهم، وهي المؤسّسة الأمنية ذات النفوذ الطاغي في الولايات المتحدة.
لقد تابعنا ما رصده الخبراء والمراقبون، وما صرّحت به قيادات عسكرية رفيعة المستوى بوزارة الدفاع الأمريكية، من أنهم يدركون التهديد المحتمل وخطورته، إضافة إلى تعليماتهم لقيادات وزارة الدفاع بمراعاة أية تصرفات مشبوهة داخل المؤسّسة العسكرية الأمريكية. وبدأت تتوالى التقديرات الأولية عن تعرّض مؤسّسات الدولة السيادية للهجوم، فقد قالت النائبة عن ولاية فرجينيا إيلين لوريا إن ما حدث هو هجوم على دستورنا ومؤسساتنا، وهي تمثل سيادة الدولة. كما وصف الرئيس جو بايدن نفسه ما حدث بأنّ الثقة بمؤسّساتنا تراجعت.
ونشرت مجلة “اتلانتيك” مقالاً جاء فيه: حرب دونالد ترامب كانت ضد المؤسّسات السيادية في الولايات المتحدة، وإنّ ما حدث من انقسام داخلي أحدث قلقاً كبيراً يمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية لها استحقاقات سلبية.
ليس هذا فقط، بل علا صوت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب محذرةً، حين قالت: إنّ العدو موجود داخل الكونغرس نفسه، وإننا نحتاج لإجراءات أمن وحماية للأعضاء، فهناك أعداء لنا من داخلنا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل تعداه ليدلي ريتشارد هاس -رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب “عالم في حالة من الفوضى: السياسة الخارجية الأمريكية وأزمة النظام القديم”-، حيث يقول: “نحن نشاهد صوراً لم أكن أتخيّل أبداً أننا في عاصمة أخرى غير واشنطن، لكن ليس في الولايات المتحدة، ومن المحتمل أن يدعو ذلك آخرين في العالم، لعدم النظر إلينا بالطريقة نفسها التي كانوا ينظرون إلينا، كما كانت الحال من قبل، وإذا كانت هناك بداية لعصر مابعد الولايات المتحدة الأمريكية فمن المؤكد أنّ البداية هي ما جرى اليوم”.
إنّ ما كان يعزّز قدرة المؤسّسات في الولايات المتحدة، وخاصة تلك المختصة برسم وتنفيذ إستراتيجية السياسة الخارجية، وجود من يسمّون النخبة في مراكز الفكر السياسي الأمريكي، وهم حشود من الخبراء المتخصّصين والقادرين على تحليل المشهد العالمي، وقراءته وتحليله بدقة متناهية، ووضع تصوراتهم المستقبلية لتداعيات المشهد الماثل أمامهم. وبعد ذلك، وهذا هو الأهم، صياغة رؤيتهم لما يرون أنه الأفضل للسياسة الخارجية الأمريكية في مختلف مناطق العالم، أو تجاه دولة بعينها. لكن ما حدث في صفوفهم –وهم بالضرورة في مقدمة مؤسّسات السياسة الخارجية– هو الانقسام والتشتّت الذي تحوّل إلى ظاهرة مقلقة في المجتمع الأمريكي، باعتبارهم المخزون الإستراتيجي للدولة، والذي يضمّ أصحاب الخبرة والتجربة العميقة، والتخصص في مجالاتهم الرئيسية المهمّة.
لا خلاف على أن النظام في الولايات المتحدة الأمريكية يتمتّع بأسباب القوة سياسياً، واقتصادياً، وتكنولوجياً، وعسكرياً، لكن ذلك كله كان يستند إلى أساس متين كانوا يسمونه في الولايات المتحدة الوفاق. والوفاق في حدّ ذاته كان في رأي رؤساء الولايات المتحدة مصدر قوتهم ومنعتهم في إدارتهم للسياسة الخارجية، لكنّ الانقسام الذي طغى حلّ محل الوفاق والوئام، ودبّت في صفوفه الرغبة والشكوك، وأخطرها أن تشكّ الدولة بمؤسّساتها السيادية ومرجعياتها.