الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مَجال

  عبد الكريم النّاعم

جلس صديقي الذي لم يقطع زياراته رغم الظروف الطّاحنة المحيطة بنا وبمن حولنا، وصرتُ في الفترة الأخيرة ألاحظ غياب الحيويّة في ملامح وجهه، فهو إمّا صامت، وإمّا شاكٍ، ولستُ ألومه، ولا أعتب، فالذي أفرزتْه سنوات الخراب الصهيوأعرابي لابدّ أن يترك آثاره العميقة في النفوس، وفي قسمات الوجوه.. وضعت فنجان القهوة أمامه بكثير من الاهتمام البادي في نظرة العين، فبادرني دون مقدّمات: “أنا لو أستطيع العيش مثلك مُعتزِلا لكنتُ فعلت، ولكنّني لاأستطيع العيش إلاّ في وسط النّاس، حتى وإن كان وسطاً لايبسط إلاّ الهموم، والغلاء، والتذمّر، والانتقاد، والغضب، إلى أين نحن سائرون، وما هو السرّ في تناسل الأزمات، وفي تعميق جراحها”؟!

تنهّدتُ تنهيدة فيها اللآّهب ممَا أحمل في هذا الداخل، وقلت: “لاأزعم أنّي أعرف أكثر منك، قد أكون أكثر مطالعة، وقراءة، وبالمناسبة، لو كنتُ قادراً كما كنتُ من قبل على الذهاب والمجيء لفضّلتُ أن أكون في وسط اللّجّة التي أنت فيها، فهذه حيويّة، ودليل عافية نفسيّة، وجرأة في مواجهة الذات والآخر، فأنا كما تعلم لم أعد قادراً على السير تلك المسافات التي كنتُ أعتبرها نوعاً من الرياضة، أمّا إلى أين نحن سائرون، فالذي أعرفه أنّنا مازلنا في ذروة المواجهة، لاشكّ أنّ سوريّة بمؤازرة حلفائها، قد تمكّنت من كسر حدّ الموجة الأولى، وما زال أمامنا الكثير الكثير، وأنا مشدود بقوّة إلى فكرة متابعة المقاومة، فهي الخيار الأنقى، والموصل إلى الأهداف، لأنّ خصمنا لايقبل إلاّ بأن نتخلّى عن كلّ كرامة لنا، وأن نكون تابعين كعديد من الآخرين في المنطقة الذين يتلقّون أوامرهم من سفارات أمريكا، نحن الآن ياصديقي في مواجهة حصار اقتصاديّ ظالم وخطير، وبظنيّ أنّ المواجهة طويلة، ولذا لابدّ من ابتكار الأساليب، والإجراءات التي تمنع العدوّ من تحقيق جبروته، ولدينا العديد من النّماذج التي عاصرناها، من كوريا الديموقراطية، إلى كوبا، إلى إيران، وقد تمكّنت هذه البلدان من الصمود، والاهتداء إلى فكّ العُقد التي أحكمتها قوى الرأسمال النهّاب الوحشيّ، لن أذهب بعيداً، وأشير إلى القريب الحميم، فإيران اليوم دولة من دول المنطقة القويّة، رغم كلّ ماأحاق بها، ولديها من قوّة الرّدع للعدوّ ما يجعله يفكّر كثيرا قبل الإقدام على أيّ عمل يستهدف النّيل منها، بينما يدفع حكّام الخليج ثمن حماية أمريكا لهم، وينحدرون إلى مستوى التحالف مع العدوّ الصهيونيّ، رغم المليارات التي يمتلكونها، وانظر إلى بنية المقاومة في لبنان التي تمثّل قمة الشرف والعطاء، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ هذه المقاومة، باعتراف سيّد المقاومة حسن نصر الله، ماكان لها أن تبلغ مابلغته لولا سوريّة، وتفحّصْ وضع المقاومة في فلسطين المحتلّة، فهم منذ سبعين عاما يقاتلون باللّحم الحيّ، ولم تتمكّن قوى الصهينة الغربية والعربيّة من كسر شوكتهم، أما غزة فقد وصلت حدّ تهديد نقاط حساسة للعدوّ، رغم الجوع، والحصار القاتل اللئيم والفقر، هذا كلّه ياصاحبي ما كان له أن يمثل لولا مسألة أساسيّة – ولستُ أُنكر تشابك الظروف، ومنحنياتها – بيد أنّ هذا كلّه ماكان له أن يبلغ مابلغ إلاّ (ببناء الإنسان)، وتلك هي البوصلة، لقد فجّرت الحرب الظالمة علينا، خلال سنواتها الماضية، وسيعملون على زيادة التفجير، فجّرتْ أسوأ وأحطّ ما يمكن أن ينحدر إليه ضعفاء النفوس، وتلك سمة عامّة في كلّ الحروب المشابهة، ولذا لابدّ من المزاوجة بين إعمار الخراب وإعمار النفوس، بل لابدّ من تقديم إعمار النفوس، لأنّ النفوس الخَرِبة، المشوَّشة، الطامعة إلى النهب والشفط، حين يتّسع حضورها، وتتقاطع تشبيكاتها الشيطانيّة سوف تُفسد أيّ إعمار قادم، ونحن أحوج مانكون إلى بدايات نيّرة، مُطمئنة، لكي نستعيد زمام الأمور.

aaalnaem@gmail.com