دونكيشوت الشخصية الخالدة
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
قبل أربعمئة عام من الآن، قدم لنا الكاتب الإسباني ميغيل دي سرفانتس شخصية دونكيشوت التي ولدت في مخيلته السردية كرد ساخر على زمنه بكل ما يحمله من انكسارات وهزائم وانهيارات. وقد استمدت هذه الشخصية خلودها من تزامنها مع كل عصر، فإذا استعرضنا مراحل التاريخ منذ وجود الإنسان حتى الآن نرى أن شخصية دونكيشوت موجودة بصور مختلفة، فهي تقوم في محورها على فكرة الصراع بين الخير والشر؛ ومن خلال تمثل الأدب لهذه الشخصية في نتاجاته نرى أن سرفانتس لم يكن الوحيد الذي قدم دونكيشوت وجهاً آخر لهزيمته وهزيمة عصره، بل هناك أدباء كثر، مثل شكسبير وبلزاك ودوستويفسكي، وأيضاً هناك محمد الماغوط وعلي الجندي وأمل دنقل وغيرهم، وكل منهم قدم دونكيشوته كما يراه ويفهمه ويرغب أن يكون. وهنا نتساءل: هل ابتكر سرفانتس هذه الشخصية ليسخر منها ومن هزائمها؟ أم ليسخر من نفسه؟ فكما يبدو لنا هناك علاقة جدلية دائمة ما بين الكاتب وبطله، يحمّله قيمه وأفكاره، وبالتالي فإنه يقدم صورة دونكيشوتية لذاته.
وإذا انطلقنا من مقولة الأديب الراحل ممدوح عدوان في كتابه “نحن.. دونكيشوت.. بحث وقصيدة”، نجد أن داخل كل منا “دونكيشوت” هو صورة الإنسان الغاضب من حالة التردي الأخلاقي والثقافي والاجتماعي في عصره، شخصية تطلع الناس على حقيقة ما يعيشون من معطيات عصرهم، فدونكيشوت بطل مؤمن بعدالة قضيته وحتمية انتصارها، إن لم يكن في زمنه، فهو واثق أن هناك من سيأتي بعده ليكمل رسالته.. إنه ألونسو كيخانو الذي سيطلق على نفسه لاحقاً اسم “دونكيشوت” الذي يعيش في واحدة من قرى إسبانيا في بدايات عصر النهضة، أخذ أسلحة قديمة مهترئة كانت لأجداده، فأصلح فيها ما استطاع، وركب حصاناً هزيلا أطلق عليه اسم روثينانتة، وبهذا بدأت مغامراته ومعركته الخاسرة من أجل تغيير العالم نحو الأفضل.
ومن الواضح أن المعاصرين للرواية لم ينظروا إليها بالجدية التي أخذتها بها الأجيال اللاحقة، فمع نهاية القرن تعاظم حضورها وخاصة خارج إسبانيا، وصار يُنظر إليها على أنها ملحمة ساخرة مكتوبة نثراً، وتتالت الشروحات التي تعلق على الكتاب بوصفه هجاء سياسياً مقنّعاً، وحين ظهرت الرومانسية الألمانية، وبدأت تفسيراتها للكتاب، ازداد التعاطف والتفاعل معه، وتحوّل البطل المضحك إلى بطل تراجيدي لأكثر الكتب حزناً. ثم يكتشف ممدوح عدوان أنه كان يكتب “دونكيشوت” طوال حياته دون أن يعرف ذلك، وكل الشخصيات التي بهرته منذ الصغر، والتي تحولت لديه إلى رموز شعرية.. كل واحد منها هو دونكيشوت في عصره، والرؤية الدونكيشوتية هي تلك التي لا تعطي صاحبها الفرصة للتراجع، ولا بد من الوقفة التي تبدو انتحارية أو جنونية، فالتراجع للبحث عن فرصة جديدة يعني التغاضي عن الانهيار الذي حدث للبشر وللقيم، ويعني أن المرء يتغاضى عن التردي، إنه حالة من معاقبة النفس لإحياء ضمائر الآخرين.
وقياساً لما نعيشه في عصرنا هذا من حالة قريبة في مواصفاتها من حالة الخيبة التي عاشها “دونكيشوت” في زمنه، نرى وقد انقضى عقدان من القرن الواحد والعشرين، أننا وعلى حين حرب هوجاء قتلت كل القيم والمثل، عدنا وانكفأنا على انتماءاتنا الضيقة، لذلك لابد من تعزيز وتكريس قيم وتقاليد جديدة تعمق الثقافة كانتماء ينمي الإحساس بالمسؤولية ويفتح الآفاق أمام الثقافة المنفتحة على الآخر بكل قيمه وأفكاره، لا أن تكون الثقافة قائمة على أفكار أشخاص يتاجرون بها من خلال مواقعهم الثقافية في مؤسساتهم. فكم نفتقد لـ “دونكيشوت” يعلن ثورته على هزائمنا وأحلامنا المجهضة وقيمنا ومثلنا التي فقدت ملامحها وهويتها، وهل لنا أن يستنهض كل منا دونكيشوته، ونشعل شمعة أمل تضيء ضبابية أرواحنا، ونخلق “دونكيشوتاً” بملامح ومعطيات تنقذنا ليس من هزائم عصرنا، بل تنقذنا من يأسنا وخيباتنا التي عتمت على كل إشراقة في حياتنا.