مجلة البعث الأسبوعية

أمريكا إيليا كازان.. “وجه في الزحام” تنبأ بصعود شعبوية ترامب ونقل العديد من الحقائق حول تلاعب الإعلام بالجمهور الأمريكي نفسه!!

“البعث الأسبوعية” المحرر الثقافي

يعد إيليا كازان من أعظم المخرجين في تاريخ السينما. ومع ذلك، فقد كان اسمه مثيراً للجدل في هوليوود، وقد اتضح هذا الأمر عندما قدم مارتن سكورسيزي وروبرت دي نيرو أوسكاراً فخرياً لكازان في العام 1999. لم يندفع الجمهور على الفور بالحفاوة البالغة المعتادة، وعلى العكس، فقد لزم البعض مقاعدهم، فيما صفق البعض بفتور، وأعرب آخرون عن الازدراء المطلق. ولربما يمكن فهم حقيقة مثل هذا الاستقبال بانقلاب كازان على ثمانية من أعضاء الحزب الشيوعي الأمريكي في “لجنة الأنشطة غير الأمريكية” التابعة لمجلس النواب، في عام 1952. لكنه، وبينما ازدرته هوليوود، كان فخوراً بأفلامه “الشخصية” التي صنعها بعد ذلك، حيث كتب: “أفلام جيدة ومبتكرة حقاً صنعتها، بعد شهادتي”.

لم يتنصل كازان من تصرفاته، وقد قال في وقت متأخر من حياته إنه اختار “فقط الخيار الأفضل بين بديلين مؤلمين وخاطئين”. وعندما سُئلت الممثلة زوي كازان عن جدها، لم تدنه.. وأشارت ببساطة إلى أنها تفكر بـ “ما يعنيه أن يختبر جدي كمهاجر إلى هذا البلد اختبار أمريكا”!! إذاً، تم اختبار أمريكا في الخمسينيات من القرن الماضي، واعتقد الشيوعي السابق إيليا كازان أنه اجتاز الامتحان، وكانت أفلامه التي تلت ذلك بمثابة انعكاسات له. وأحد أفلامه “الجيدة حقاً”، “وجه في الزحام”، يعير بدقة عن هذا التوصيف. وتدور أحداثه حول فنان يرضي الجمهور، ولكن شخصيته لا تستحق مثل هذا التقدير. يقدم الفيلم تشابهاً مفيداً مع تسمية كازان لأسماء الشيوعيين الذين اعتبرهم تهديداً لأمريكا، ما يعكس الطبيعة الشخصية التي يقول إنها كانت موجودة في أفلامه بعد عام 1952. وقد كانت هناك بعض المقالات الصحفية التي كتبت أن هذا الفيلم كان توقع صعود دونالد ترامب بسبب مزجه بين الشخصية الترفيهية المسلية والديماغوجية السياسية. ومع ذلك، فإن “وجه في الزحام” ليس مجرد تحذير من مخاطر الشعبوية، ولا من بطلها “ترامب”، فقد تم الكشف عن فهم كازان للشخصية الأمريكية ليس فقط من خلال فنان ماكر، ولكن أيضاً من خلال الأشخاص الذين غذوا صعوده.

يبدأ الفيلم بصور مختلفة لولاية أركنساس: الشوارع، البنايات، الناس، والأجواء العامة. ولا يستغرق الوقت طويلاً ليقدّم لنا الشخصية الرئيسية، حيث تذهب مُقدّمة البرنامج الإذاعي “وجه في الزحام”، مارشيا، إلى أحد سجون الولاية لتلتقي السجناء. وهناك تتعرف على “لاري”، وتعرف من السجناء الآخرين أنه عازف غيتار ومغنّ بارع، فتطلب منه أن يؤدي أغنية لبرنامجها الإذاعي، فيرد بالرفض، ولكنه يقبل بعد أن يخبره المدير أنه إن غنّى سيطلق سراحه. أمسك لاري غيتاره وارتجل من وحي اللحظة: “رجل حر في الصباح”.. حتى أسر جميع من حوله، ما دفع مارشيا للتفكير بضمّه للإذاعة، وهذا ما حدث!!

يبدأ لاري في إذاعة أركنساس في ساعة مخصصة له كل صباح. ولم يكن يكتفي بالغناء، بل يحكي قصصاً، ويطلق النكات، ويتحدث بروح حرّة حديثاً حقيقياً غير متكلف، فيجذب إليه مئات المستمعين. وخلال أيام قليلة يساهم في رفع معدلّات الاستماع على نحو لم تحلم بها الإذاعة من قبل. ولكن مارشيا تلحظ أن لاري في جميع أوقاته هو لاري نفسه في ساعته الإذاعية.. لا يهتم للنجومية ولم يغير أسلوب حياته، يمارس عمله الإذاعي كمتعة شخصية ووسيلة للحديث مع سكّان مدينته لا أكثر. ولكن، ولحضوره الطاغي وكثرة مواهبه وحب الناس له، تتصاعد نجوميته إلى أن تخرج من نطاق المحليّة.

 

الفتى الريفي البسيط

ينتقل لاري ومارشيا إلى ممفيس استجابةً لعرض من إحدى المحطات التلفزيونية. ومنذ الحلقة الأولى يفرض لاري ايقاع شخصيته المميزة على الشاشة، إذ لم تستطع الكاميرا الحدّ من جرأته وحريّته في كلامه. وخلال أيام قليلة يلمع اسمه في فضاء التلفزيون، ويصبح حديث العامة والإعلام. ولكنه عندما توقع القناة عقداً مع إحدى الشركات ينصّ على أن يسوّق لاري للشركة في برنامجه، يرفض، ليقدم الإعلان تحت الضغط بأكثر الأساليب سخرية وتهكماً، ما يغضب إدارة القناة التي تطرده.. ولكن هناك عرضاً من نيويورك!!

في نيويورك، تبدأ سلسلة التحولات في شخصيته، ويبدأ الصعود الخارق لنجوميته وجماهيريته. يبدأ الانفصال عن ذاته عند قبوله للترويج والإعلان لحبوب “فايتغكس” التي يرغب أحد كبار رجال الأعمال بتقديمها بصورة “الحبوب السحرية”، وما أإن يقبل لاري بهذا الإعلان الزائف، حتى تبدأ رحلة كازان المجنونة في الغوص في كواليس التلفزيون والصناعة الإعلامية، وفي مفاهيم الشهرة والنجومية، وتأثيرها على الفرد نفسه، وعلى الجمهور خلف الشاشات. في الربع الأول من الفيلم حيث الشهرة ما زالت محلية والشخصية متسقة مع ذاتها يتسم إيقاع الفيلم بشيء من الهدوء والحوارات المستغرقة والطويلة، ولكن بعد نيويورك والشهرة العالمية يصبح كل شيء سريعاً ومضطرباً.. يستغرق لاري في شهرته وصورته الإعلامية، تخطفه مضخات الإعلام بصورة مرعبة لتحوّله إلى وجه آخر زائف ومعلّب. يدخل لاري حالة تشبه حالات الإدمان، حيث يتعلق يوماً بعد يوم بشهرته ونجوميته، ويتغذّى على حب الجماهير، ويطمع في المزيد!

في الخلفية، هناك علاقة تتطور بينه وبين مارشيا تصبح علاقة حب متبادل، ولكن مارشيا تعيش صراعاً معقدّاً، فهي تتابع التغيرات الهائلة التي طرأت على لاري، وانفصاله عن ذاته، وتقمص ذاتٍ أخرى كان هو أول من يرفضها. لقد أصبح “الفتى الريفي البسيط” الذي أحبّته “النجم المشهور على مستوى أميركا”، والذي انتزعت منه الأضواء كل ما هو خاص وفريد وإنساني، وأصبح نفساً طماعة مهووسة بذاتها وبصورتها أمام الشاشات. وهي تستشف الآن أنه يذهب في طريق مدمر, وهو، بالمقابل، ولأنه في وسط مليء بالمنافقين، ويعج بصداقات واهية ومبنية على مصالح متبادلة، يجد فيها ملاذاً في أوقاته الصعبة، يدرك أنه لن يجد أصدق منها وأكثر حبّاً له، وهكذا في إحدى الليالي يطلبها للزواج.

 

اغتيال الخصوصية

بعد عودته من السفر، تستقبله مارشيا بلهفة، لتُفاجأ بأنه ينزل من الطائرة صحبة زوجته، الراقصة الاستعراضية التي تصغره بسنوات. ومنذ أول مشهد لتفاعل الزوجين أمام الكاميرات، ندرك صورة هذه العلاقة وغايتها، إذ ترفع الفتاة فستانها إلى ما فوق الركبة وسط تصوير وتواجد إعلامي كبير – زواج إعلامي – ومزيد من اغتيال الخصوصية. يصوّر كازان هذه العلاقة بدقة وذكاء ملفتين وكأنك تشاهده يحاكي بعض علاقات مواقع التواصل الاجتماعي اليوم. ولأنه زواج غير سوي، ينتهي بشكل غير سوي، فبعد أن يكتشف لاري أن زوجته تخونه مع وكيل أعماله، ينهي العلاقة بـ ”أنتِ مطرودة”، وكأن الزواج عقد عمل آخر، ينتهي بالطرد، وليس بالطلاق.

 

السقوط

يدخل لاري حالة من الهوس والجنون، حيث يقضي أيامه في فرار مستمر، يخترع آلة تصفق وتضحك له بضغطة زر، يتغذّى على حب الجمهور، وعلى معدلات المشاهدة العالية. ذلك الرجل البسيط في أركانسس الذي كان حرّاً في السجن، أصبح الآن مملوكاً في أكبر المنازل وأفخمها، لقد نجحت مكائن الإعلام الضخمة في طحنه ونزع كل مبدأ إنساني كان يحافظ عليه لتحوّله إلى كائن مزيّف، سلعة، شكل إعلامي يحبّه الجمهور.

كازان لا يتوقف مع تعاطي هذا النجم مع رجال الأعمال أو شركات الإعلان الضخمة، بل يأخذ فيلمه إلى آفاق أبعد وأكثر جرأة، حيث يقترب لاري من كبار رجال السياسة. وفي إشارة إلى تأثير النجم على الجمهور، يصوّر كازان مشهداً طويلاً، يوجّه فيه لاري أحد المرشحين السياسيين إلى الطرق التي يجب أن يظهر بها في الإعلام – ليحصل على حب الجمهور وبالتالي تصويتهم – كيف يمشي، كيف يتكلم، عم يتكلم: “ليس من المهم أن يحترموك، المهم أن يحبوك”.

يزداد هوس لاري وجنونه، ويبدأ مدح نفسه باستمرار والهجوم على الجمهور في محادثاته الخاصة “إنني أمتلكهم، إنهم يفكرون مثلي”، وتزداد أيضاً معاناة مارشيا أمام “الوحش” الذي صنعته، وتحاول أن تخلّصه من استعباد النجومية ولكن بلا جدوى، إلى أن تضطر في إحدى حلقاته – التي يسخر فيها لاري من جمهوره أمام الكاميرا لعلمه أن صوته مقطوع – أن تفتح الصوت ليسمع جمهوره العريض كلماته القذرة التي يتهجم بها عليهم لتنهي نجوميته.

وبالفعل في مشهد عبقري، يدخل لاري المصعد نازلاً عشرات الطوابق ليصل إلى الدور الأرضي، يوجه كازان الكاميرا على الأرقام في المصعد، ويعرض لقطات سريعة لاضطراب الجمهور والصحافة والإعلام وهجومهم الصارخ على لاري، ويستمر المصعد في النزول، وهكذا يسقط لاري سقوطاً سريعاً، فتلك القيمة والمكانة غير الحقيقية، سقوطها يكون سريعاً ومدوياً، وليس غريباً أن يكون نجم أميركا الأول في ساعات رجلاً منسياً يلفظه الجمهور.

“وجه في الزحام” هو فيلم سياسي من الدرجة الأولى، ويجب التعامل معه على هذا الأساس. لقد ابتكر كازان فيلماً للمشاهد المتأني، وتنبأ بالوضع الأمريكي الحالي مع تقديم دروس في كيفية العمل ضمنه. كان كازان على حق: “السياسة شعب”، وفي حين أن الناس طيبون، فإنه يمكن التلاعب بهم. يوضح الفيلم لماذا تحتاج النخب إلى أن تكون أفضل، وكيف أن على الجمهور أن يكون أكثر نقديّة. وتماماً كما لعب كازان دوره في الحرب ضد الشيوعية، يعتبر فيلمه بمثابة دعوة واضحة للأمريكيين لإدراك أن أسلوب حياتهم يتعرض لتهديد مستمر من قبل قلة بارزة لا تشاركهم مبادئهم ولا شخصياتهم اللائقة.