دراساتصحيفة البعث

روسيا والسيادة الألمانية

هيفاء علي

تشهدُ العلاقات الروسية– الأوروبية هذه الأيام نوعاً من التوتر على خلفية العديد من القضايا، ففي الأسبوع الماضي تمّ تحريف تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف –المتزن- عن علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبي.

وسائل الإعلام الأمريكية حرّفت تصريحات لافروف، وركزت على مقولة “إن موسكو يجب أن تكون مستعدة لكسر محتمل مع الاتحاد الأوروبي، وأن هذا الانقطاع هو النتيجة المباشرة لعقوبات الاتحاد الأوروبي الجديدة، ولاسيما تلك التي تخلق مخاطر على اقتصادنا، خاصة في المناطق الأكثر حساسية”.

لكن في الواقع قال لافروف حرفياً: “نعتقد أننا سنكون مستعدين لذلك، نحن جيران وهم أعظم شريك تجاري واستثماري لنا. تعمل العديد من شركات الاتحاد الأوروبي هنا، وهناك المئات إن لم يكن الآلاف من المشاريع المشتركة، عندما يكون العمل مفيداً للطرفين، فإننا نستمر في ذلك، أنا متأكد من أننا أصبحنا مستقلين بشكل كامل في مجال الدفاع، نحتاج أيضاً إلى تحقيق الموقف نفسه في الاقتصاد حتى نتمكّن من التصرف، وفقاً لذلك إذا وجدنا مرة أخرى أن العقوبات تُفرض في منطقة قد تؤدي إلى مخاطر على اقتصادنا، أكثر المجالات حساسية مثل توريد قطع الغيار، فلا نريد أن نكون معزولين عن العالم، لكن يجب أن نكون مستعدين لذلك. إذا أردت السلام استعد للحرب”، ما يعني أن لافروف لا يدّعي أن روسيا ستقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي من جانب واحد، بل أشار إلى أن الكرة الآن في ملعب الاتحاد الأوروبي.

وكان مبعوث الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أثار بعد رحلته إلى موسكو مسألة ما إذا كانت بروكسل تدرس إيجابيات وسلبيات فرض عقوبات جديدة، وبالتالي فإنه من الواضح أن ردّ لافروف كان يهدف إلى جعل المفوضية الأوروبية تستمع إلى المنطق بقيادة وزيرة الدفاع الألمانية السابقة أورسولا فون دير لاين. لذا فإن المسرح مهيّأ لاجتماع حافل بالأحداث لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اللقاء القادم، حيث سيناقشون عقوبات جديدة محتملة، من المرجح أن تشمل حظر السفر وتجميد الأصول لبعض الشخصيات الروسية الذين يتهمهم الاتحاد الأوروبي بالمسؤولية عن سجن أليكسي نافالني الذي تعتبره الغالبية العظمى من الروس عميلاً مهماً لحلف شمال الأطلسي. كما سيمهّد اجتماع الأوروبيين المقبل الطريق لعقد قمة لزعماء الدول الأعضاء في نهاية آذار، حيث يمكن للاتحاد الأوروبي الموافقة رسمياً على عقوبات جديدة، وهذا يتطلّب قراراً بالإجماع من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة.

رغم كل ذلك، سوف تستمر التجارة بين روسيا والاتحاد الأوروبي مهما حدث، ذلك أن الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة للطاقة الروسية. وروسيا مستعدة لبيعه النفط والغاز وخطوط الأنابيب وكل شيء. أما إذا كان الاتحاد الأوروبي لا يريد ذلك لمجموعة من الأسباب، فلدى روسيا البديل، حيث تعمل على تطوير تدفق مستمر من الشركات، وخاصة في قطاع الطاقة، عبر شرق آسيا.

في المقابل، يدّعي الأطلسيون أن قضية نافالني ترتبط ارتباطاً مباشراً بـ مشروع “السيل الشمالي2″، وهذا بحدّ ذاته محض افتراء، لأن نافالني تمّ استخدامه لتقويض مشروع “السيل الشمالي2″، والحدّ من تعزيز مكانة برلين في قلب سياسة الطاقة في الاتحاد الأوروبي، وما يتبعه من عوامل رئيسية في السياسة الخارجية الشاملة للاتحاد الأوروبي، حيث  تتمتع ألمانيا، على الأقل من الناحية النظرية، باستقلالية أكبر عن الولايات المتحدة الأمريكية، وعليه، يتعلق الأمر كله بالسيادة. وكل فاعل جيوسياسي وجيو- اقتصادي يعرف من الذي لايريد تفاهماً أوثق بين ألمانيا وروسيا.

وماذا لو علمت الولايات المتحدة أن ألمانيا تهيمن على أوروبا وترسخ العلاقات التجارية واستثمارات البترول ليس فقط مع روسيا بل مع الصين أيضاً؟، هذا هو السر الثاني الذي تضمّنه اتفاق الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوربي. لذا، بغضّ النظر عمن تتحدث إليه في البيت الأبيض، فليس هناك ما يمكن توقعه من الدولة العميقة أكثر من الدفع “الجنوني” نحو عقوبات دائمة ومتراكمة.

الكرة اليوم في ملعب برلين، أكثر بكثير من ملعب بروكسل الكابوس الأوروبي، حيث ستكون الأولوية المستقبلية للجميع هي الحصول على معاش تقاعدي كامل وصافٍ من الضرائب، والأولوية الإستراتيجية لبرلين هي زيادة صادراتها، داخل الاتحاد الأوروبي وإلى آسيا. يعرف المصنّعون الألمان ودرجة رجال الأعمال بالضبط ما يمثله “نورد ستريم 2” للسيادة الألمانية الحازمة المتزايدة التي توجّه قلب الاتحاد الأوروبي وتترجم إلى زيادة السيادة الأوروبية.