ولاؤها مزدوج للصهيونية وللهيمنة العالمية الأمريكية “الدولة العميقة”.. الآلهة الخفية لزعزعة استقرار الدول وحماية الدكتاتوريات الاقتصادية
“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف
ترتبط “الدولة العميقة” بهيكل القوة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتتمثل وظيفتها الرئيسية في “إضفاء الطابع الأمني” على الأساس الديمقراطي للحكومة ومؤسساتها، وبالتالي فإن المسؤولية الأساسية “للدولة العميقة” هي حماية حكومة الولايات المتحدة، وهذا هو بالتحديد السبب الذي يجعل “الدولة العميقة” تعرّف أكثر بـ “الدولة الأمنية”.
لقد تم تكييف العالم بشكل عام للاعتقاد بأن حكومة الولايات المتحدة هي الأنموذج الرئيسي للديمقراطية، وأن أي هجوم على هذه الحكومة هو بمثابة اعتداء على الديمقراطية. ولمنع مثل هذا الهجوم – حسب مقتضى الحال – فإن “الدولة الأمنية”، التي تقف في الظروف العادية على قدم المساواة مع “الدولة الديمقراطية”، تتولى زمام الوضع الشاذ باستخدام سلطتها الأوتوقراطية؛ وبعبارة أخرى، عندما تكون الظروف طبيعية تميل السلطة إلى جانب الدولة الديمقراطية، أما في حالة الطوارئ فتكون إلى جانب الدولة الأمنية الاستبدادية، حيث يعتبر هذا الظرف من الناحية النظرية مسألة طارئة، وبالتالي مؤقتة.
لكن ما نراه ببساطة في الوقت الحالي هو سطح البشرة الذي يعرض أفضل ما ينضح به هذا “الأنموذج الأساسي” لـ “الديمقراطية”، لأن هناك أكثر مما تراه العين. ففي ظل التكوين السطحي، هناك شبكة أكثر تعقيداً من البنية التحتية المخفية التي يُحسب أنها أكثر أهمية من أي شبكة موجودة في الخارج ومرئية بالعين المجردة. فكما في حالة جبل جليدي، ما نراه هو مجرد طرف صغير، ولكن الجزء الأكبر من شكله الصلب عميق تحته. وهذا يمكن مقارنته بكيفية عمل الدولة الأمنية التي نطلق عليها الصفة البديلة، “الدولة العميقة”.
إن ما يثير اهتمام الدولة الأمنية العميقة هو أكثر من مجرد دولة ديمقراطية لحكومة الولايات المتحدة، إنها مهتمة أكثر بصناعات الأعمال الضخمة التي تضم “التروس” المتعددة للمؤسسات الاقتصادية الأمريكية التي تهيمن على العالم، وهذه هي الآلات التي تسيطر عليها حكومة الولايات المتحدة بالكامل.
بعبارة أخرى، لا تمتلك الأخيرة القوة الكامنة بحد ذاتها، بل تستمد قوتها من هذه المؤسسات الصناعية الضخمة ذات الحجم العالمي. وبهذا الصدد، فإن ما نراه هو حكومة مدينة بالفضل للتكتلات الصناعية للشركات الكبرى، وتتخذ قراراتها وأفعالها بأمر من هذه الشركات الصناعية العملاقة.. تلك هي الآلهة “الخفية” التي تدافع عنها الدولة العميقة / الدولة الأمنية وتحميها.
يقودنا هذا الترتيب إلى تأكيد حقيقة أن النسيج الاجتماعي والسياسي للولايات المتحدة الأمريكية هو مجرد مظهر من مظاهر الديمقراطية – ديمقراطية مزيفة، لأن حكومة الولايات المتحدة هي خليط من الصناعات التجارية الكبرى، وما يحصل عليه مواطنوها هو مجرد فتات خبز يسقط من على موائد الآلهة “الأقوياء” – أباطرة الصناعة الذين يمتلكون الآلات التي تدير الاقتصاد الأمريكي. هؤلاء هم الاقتصاديون الأقوياء الذين يسيرون في أروقة السلطة، ويتم الدفاع عنهم وحمايتهم عن كثب من قبل الدولة العميقة / الأمنية.
ويتجاوز نفوذ الدولة العميقة / الدولة الأمنية الموقع الجغرافي، حيث أن قوتها محسوسة في كل بلد تسود فيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة. إنها تهيمن على منطقة أوروبا الغربية من خلال وكيلها المعروف باسم منظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وتسيطر على عدد من دول جنوب شرق آسيا من خلال الهيمنة الاقتصادية على الدول الأعضاء في رابطة (آسيان)، أما في الشرق الأوسط فقد تم لحظ موقفها العدواني بشكل كبير عبر اختلاق عدد لا يحصى من حملات زعزعة الاستقرار حتى انتهى الأمر بها إلى شن الحروب في أفغانستان والعراق وليبيا وسورية واليمن بمساعدة حليفتيها المدمرتين: الوهابية السعودية وإسرائيل الصهيونية. ولتعزيز وحماية مصالحها الاقتصادية في منطقة أوروبا الشرقية، بذلت كل الجهود العدوانية الممكنة لإبقاء روسيا في مأزق التهديد بمواجهة عنيفة، وفي أمريكا الجنوبية، كانت تؤجج زعزعة الاستقرار في فنزويلا للإطاحة بحكومة نيكولاس مادورو المنتخبة ديمقراطياً وفي سبيل السيطرة الكاملة على صناعة النفط في البلاد. وفي آخر التطورات، كانت تتحدى إيران بخوض حرب نووية لا تعدو كونها – على أساس تقييمات صادقة معيّنة أجراها خبراء في مجال الجغرافيا السياسية – استفزازاً في الهواء الساخن.. أي استفزازاً خلبياً فارغاً لا طائل من ورائه!!
وبالتركيز على ما يحدث في الشرق الأوسط، فإن الهدف الرئيسي للدولة العميقة / الدولة الأمنية هو السيطرة الكاملة على المنطقة لتحقيق النجاح النهائي لمشروع “إسرائيل الكبرى”، حيث تعتبر إسرائيل الصهيونية امتداداً لسيطرة الولايات المتحدة على كل الدول العربية. وهذا المشروع، الذي يضع إسرائيل الصهيونية في مركز القوة المهيمنة، يدعم باستمرار النظرية القائلة بأن الدولة العميقة / الدولة الأمنية ليست فقط رابطة من كبار رجال الأعمال الأمريكيين الكبار في الصناعة، بل وأيضاً عصابة متأثرة بالصهيونية، وولاؤها مزدوج للصهيونية وللتفوق العالمي للولايات المتحدة.
أصل المصطلح
باتت “الدولة العميقة” مجرد خطاب سياسي، إنها مكافئة لمصطلحات مثل “أخبار مزيفة” و”مطاردة الساحرات”. والآن، وعلى مستوى أعمق، هناك ما يمكن أن نطلق عليه اسم حكومة دائمة أو حكومة مؤسسية. وبالفعل، لدى الولايات المتحدة مثل هذه المنظمات الضخمة والمفرطة القوة مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووكالة المخابرات المركزية، ووكالة الأمن القومي. وفي العصر الرقمي على وجه الخصوص، عندما تكون القدرة على المراقبة هائلة جداً، من المحتمل أن تكون هذه الوكالات خطيرة، لأنها تشكل معاً ما يعنيه الكثير من الناس بـ “الدولة العميقة”.. لقد أصبح مصطلح “الدولة العميقة” وسيلة فعالة للإشارة إلى مؤامرة لا دليل عليها.
لكن ما هو أصل هذا المصطلح؟ ومتى اتخذ المعنى الذي لديه الآن؟. كانت المرة الأولى التي تم فيها رصد مصطلح “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة هو الكتاب الذي صدر عام 2007 بعنوان ” الطريق إلى 11/ 9.. صحة الإمبراطورية ومستقبل أمريكا” من قبل أستاذ جامعي في جامعة كاليفورنيا / بيركلي، يدعى بيتر ديل سكوت.
استخدم سكوت في كتابه المصطلح لوصف المجمع الصناعي العسكري. كتب سكوت عن إحساسه بأن المتعاقدين العسكريين دفعوا البلاد إلى الحروب، وربما ساعدوا في تأجيج أحداث 11 أيلول، والحروب التي تلتها. وبالنسبة لسكوت، تم تطبيق مصطلح “الدولة العميقة” أيضاً على المصالح المالية الكبيرة ، مثل البنوك ووول ستريت.
والسؤال: هل مصطلح “الدولة العميقة” وسيلة لوصف أجزاء من الحكومة – أو القوى التي تتفاعل مع الحكومة – التي لم يتم انتخابها، أو خارج نطاق الضوابط التقليدية؟ لقد تطور استخدام المصطلح لاحقاً عندما بدأ تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالي فيما يسمى “روسيا غيت” حول دور موسكو المزعوم في انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب، ثم امتد ليشمل وكالة الاستخبارات المركزية أيضاً، كما أعلن مؤخراً أن البنتاغون جزء من الدولة العميقة.
لكن معظم المسؤولين الأمريكيين يقولون إنهم يحاولون القيام بوظائفهم وإبقاء رؤوسهم منخفضة ولا يريدون أن يكونوا جزءاً من الشجار السياسي. ويعتقد الكثير منهم أنهم تضرروا من صراحة أشخاص مثل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق، جيمس كومي، وآخرين مثله، كما يعرف الكثير منهم أنه بات هناك بالفعل الكثير من عدم الثقة بعملهم بعد تسريبات سنودن لآلاف المستندات السرية حول برامج التجسس التابعة لوكالة الأمن القومي عام 2013.
في عام 2018، وجد استطلاع أن أكثر من 70٪ من الأمريكيين يعتقدون أن هناك مجموعة من المسؤولين غير المنتخبين الذين يؤثرون سراً على السياسة في واشنطن، ويعتقد ما يقرب من 80% أنهم يخضعون للمراقبة من قبل الحكومة، والمجموعات التي لديها أعلى اعتقاد بذلك، أو لديها أكبر مخاوف من ذلك، كانت على الجانب الصحيح من الطيف. بل وأعرب كل الرؤساء عن إحباطهم عندما تولوا منصبهم؛ وعلى سبيل المثال، شكا رونالد ريغان من عدم رغبة وزارة الخارجية في محاربة الشيوعية بقوة، كما فعل، وخشي باراك أوباما من قيام مسؤولي البنتاغون بتسريب الأرقام المحتملة لزيادة القوات في أفغانستان، كوسيلة لإجباره على إرسال المزيد من القوات، أكثر مما يريد، إلى أفغانستان.
“الدولة العميقة” والحكومة
بالنسبة للكثيرين ممن قضوا سنوات في الإدارات الأمريكية، يبدو مصطلح “الدولة العميقة” مزعجاً، فقد قالت نانسي مكيلداوني مديرة معهد الخدمة الخارجية في أرلينغتون بولاية فيرجينيا السابقة: “الدولة العميقة غير دقيقة ومضللة بشكل فادح. إن الإشارة إلى الموظفين المهنيين في حكومة الولايات المتحدة على أنهم شكل من أشكال الدولة العميقة هو محاولة واضحة لنزع الشرعية عن الأصوات المخالفة، والأسوأ من ذلك أنها تحمل معها إمكانية إثارة الخوف وإشاعة الشائعات، وهو حقاً مصطلح تآمري مظلم لا يتوافق مع الواقع”.
من جانبه يقول بول لايت، أستاذ الخدمة العامة في بوليت جودارد في جامعة نيويورك: “الإشارة إلى الموظفين المدنيين المهنيين في حكومات الولايات المتحدة على أنهم شكل من أشكال الدولة العميقة هو محاولة واضحة لنزع الشرعية عن أصوات الخلاف. والأسوأ من ذلك، أنه يحمل في طياته إمكانية استدراج الخوف وإشاعة الشائعات، وهو في الحقيقة مصطلح تآمري مظلم لا يتوافق مع الواقع. الديمقراطيون يفهمون عموماً أنهم سيحتاجون إلى موظفين فيدراليين لتنفيذ سياساتهم، أما الجمهوريون فلديهم التسلسل الهرمي نفسه، لكنهم مدفوعون بهدف مختلف.. كلا الطرفين في الماضي، قالا: “لدينا أجندة، لدينا أربع سنوات، وربما ثماني سنوات، لذلك لا يمكننا انتظار العمل”.
بينما يشعر نورم أورنستين، من معهد “أمريكان إنتربرايز”، بالذهول إزاء مثل هذا التشكيك، ويرد قائلاً: “لدينا مهنيون وبعض المعينين السياسيين الذين كانوا هناك بعض الوقت وهم أساسيون لعمل الحكومة. لقد كانوا هناك على امتداد إدارات مختلفة، ولديهم مصالح سياسية خاصة بهم. لذا، نعم، هناك تلك الشبكة من الناس، لكن تجربتي على مدى عقود عديدة هي أنهم يعون دورهم إلى حد كبير، فهم يتبعون قيادة الإدارات”. وأضاف: “في العقود الأخيرة حدث ضرر كبير، من حيث أنه عندما يكون هناك تغيير في الحزب، يميل القادمون الجدد إلى النظر إلى العديد من هؤلاء المهنيين على أنهم خونة يجب طردهم”.