تنامي اليمين المتطرف الأوروبي.. أسبابه وخطورته
محمد نادر العمري
كان وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية العام 2017، بمنزلة فرصة تاريخية لطالما انتظرتها جماعات اليمين المتطرف في أوروبا، لكي ترفع أصواتها وتعلن عن شعاراتها وتطرح أيديولوجياتها القومية والشعبوية والفاشية أحياناً على الملأ.
وقبيل وصول ترامب إلى السلطة، كانت أزمة البريكست بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قد بدأت، ولكلتا الدولتين أي أميركا وبريطانيا التأثير الكبير على دول القارة العجوز. لقد ساهم ترامب بنقل الخطاب الشعبوي والغوغائي والعنصري من مستوى الشوارع والحانات إلى مستوى قادة الدول، كما أن خروج بريطانيا يهدّد وحدة الاتحاد الأوروبي ويعرّض الهوية الأوروبية للتفكك، لكونه يعزّز من قوة الخطاب المبنيّ على الهوية القومية “الوطنية” لكل بلد أوروبي على حده. فالفصل بين اليمين المتطرف كخطاب وأيديولوجيا، والقومية والشعبوية، صعب في هذا السياق، فهو يستحضر عصر صعود القوميات في بداية القرن العشرين، وما فيه من إعلاء للذات القومية على غيرها من الشعوب، مستفيداً من موروث أوروبي عريق كانت النازية والفاشية أبرز صوره وتعبيراته، ولذلك فلا غضاضة في أن نوصف فكر اليمين المتطرف بـ”النازية الجديدة” أو “الفاشية الجديدة”، طالما أنه يستحضر أدبياتهما وتراثهما، فمن طبيعة الخطاب المبنيّ على هذا الفكر أن يكون شعبوياً وديماغوجياً، فهو خطاب موجّه إلى الغرائز وليس إلى العقول!.
ومن الناحية الاقتصادية، اليمين ليس ليبرالياً، بل هو يتبنى مفهوم “دولة الرفاه” المطبّق في أوروبا الغربية والشمالية، ويعني تدخل الدولة من أجل تحقيق نظام تأمينات اجتماعية جيد للعمال والعاطلين عن العمل والمتقاعدين، ودعم القطاع الصحي وقطاع التعليم.. إلخ. ومن هذه النقطة استطاع اليمين المتطرف كسب أصوات العمال والطبقة المتوسطة الدنيا، إذ هو يحارب اليسار الأوروبي بسلاحه التقليدي، ومن هذه النقطة استطاع اليمين المتطرف الربط ما بين الأزمة الاقتصادية والمهاجرين.
إن صعود اليمين المتطرف وخطورة هذا الصعود ليسا أمراً موهوماً أو مبالغاً فيه، إذ إن أوروبا لم تشهد صعوداً لليمين بهذا الحجم منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تبلغ نسبة أحزاب أقصى اليمين في البرلمانات الأوروبية، حسب تقرير منشور في موقع الـ (BBC) مطلع 2020: (السويد والنرويج وفنلندا وإيطاليا 17% من البرلمان، وترتفع في الدانمارك إلى 21%، وتنخفض في هولندا وفرنسا إلى 13% على مقربة من ألمانيا 12.6%، بينما تبلغ معدلات عالية في برلماني النمسا وسويسرا 26% و29% على التوالي، أما النسبة الأخطر فنجدها في برلمان المجر 49%).
فوز سيباستيان كورتز بمنصب مستشار النمسا في انتخابات عام 2017، أطلق ناقوس الخطر في أوروبا، بعد حملة انتخابية قامت على عداء المهاجرين وإحياء القومية النمساوية، وما إن وصل كورتز إلى السلطة حتى تحالف مع حزب أقصى اليمين “حزب الحرية”، وأعطاه وزارات سيادية، ومن يومها راحت الحكومة النمساوية تدعم جماعات متطرفة ذات أيديولوجيا نازية واضحة وصريحة، مثل منظمة “هوية الجيل” (Generation Identity)، وبالمناسبة لم تقتصر خطورة هذه الحكومة اليمينية على بلدها، إذ سبق لوزير الداخلية النمساوي أن طلب من رئيس وحدة مكافحة التطرف في جهاز الاستخبارات أن يعطيه أسماء العناصر المكلفة بمراقبة جماعات أقصى اليمين، فرفض رئيس الوحدة ذلك، مما كشف عن تستر بعض مسؤولي الدولة على هذه الجماعات، وهذا ما دفع الولايات المتحدة ودولاً أوروبية إلى القلق والتشكيك بالتعاون المعلوماتي مع النمسا، خوفاً من الحصول على معلومات مضلّلة.
ويعيد بعض دارسي العلاقات الدولية أسباب صعود اليمين المتطرف إلى الأزمة المالية عام 2008، والتي وقعت آثارها المباشرة على الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة، وكان من هذه الآثار خسارة الملايين لأعمالهم بشكل كامل أو جزئي، واقتطاع الأجور وتخفيض امتيازات الرفاه، وإحالة البعض إلى التقاعد وآخرين إلى التقاعد المبكر بسبب العجز. وقد تمّ تحميل مسؤولية هذه الأزمة للأحزاب التي تتبنى نموذج الدولة المتدخلة في الاقتصاد والمجتمع، أي أحزاب العمال واليسار الاشتراكي والديمقراطية الاجتماعية، واعتبرت الأزمة دليلاً على فشل هذه الأحزاب في إدارة الدولة، ولذلك فإن كل متضرّر من الأزمة المالية، وكل من يعاني من عدم الاستقرار الوظيفي أو الاقتصادي، هو محلّ استقطاب من قبل اليمين المتطرف ومرشح بقوة لتأييده.
بعد ذلك، قامت أحزاب أقصى اليمين بردّ مشكلات البطالة وعدم الاستقرار الوظيفي وتخفيض امتيازات الرفاه إلى المهاجرين القادمين من خارج أوروبا، وتحديداً ما دُعي بـ”أزمة اللاجئين” عام 2015، إذ هم يقولون للمواطن الأوروبي إن ما يعانيه من صعوبات اقتصادية اجتماعية تعود أسبابها إلى اللاجئين، فهم يزاحمونه في سوق العمل أولاً، وهم يحمّلون الدولة أعباء مالية كبيرة تتمثّل في رواتب البطالة، وبالرغم من ضعف هذا الطرح وعدم استناده إلى حقائق، إلا أنه حقق نتائج مبهرة لمصلحة اليمين.
ومع موجة اللاجئين عام 2015، تعالت أصوات يمينية بتخويف المواطنين من آثار هذه الهجرة على الهوية الأوروبية، وتحذّر من زوال “الثقافة الأوروبية” أو “الغربية”، وكذلك من “أَسلمة أوروبا”، وتمثلت النتائج المباشرة لهذا الخطاب بالازدياد الملحوظ لظاهرة رهاب الأجانب، وعداء المهاجرين، والإسلاموفوبيا الذي حلّ محل معاداة السامية من منظور المركز الأوروبي. ولكي نكون موضوعيين، فلا يقوم هذا الخطاب على فراغ أو وهمٍ، إذ سبق لعناصر إسلاموية متشدّدة أن ارتكبت جرائم إرهابية في عدة دول الأوروبية. لكن خطورة هذا الخطاب اليميني لا تكمن هنا فحسب، بل تكمن في استدعائه لأسطورة تفوق العرق الأبيض (White Supermacy) المرتبطة بتاريخ لا يمكن لـ”أزمة اللاجئين” أن تكون هي السبب وراء مواقف اليمين المتطرف المؤدلجة والـمستندة إلى تراث ضارب في القدم من الاستعمار والاستعباد وتجارة الرق، وبأيديولوجيات لم تجلب لأوروبا والعالم سوى المجازر والدمار. وبالتالي فهو خطاب يهدّد الهوية الأوروبية، وكذلك الهوية الوطنية لكل بلد أوروبي، بالتوازي مع أثره على المهاجرين.
في المقابل تشير بعض مراكز التفكير إلى أن تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى أوروبا، وصعوبة اندماجهم في المجتمعات الـمضيفة، والفروق الثقافية، واحتمال ظهور عناصر إرهابية من بينهم، هي الأسباب الرئيسية وراء الصعود المتسارع لليمين المتطرف في السنوات الأخيرة. ولكن الوقائع الميدانية تشير إلى نقطتين: الأولى هي أن الأزمات الاقتصادية الكبرى مثل أزمة عام 1929 وأزمة عام 2008، هي التربة الخصبة التي نبتت فيها التيارات المتطرفة والحركات المعادية للديمقراطية. النقطة الثانية هي أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، شجّع الأحزاب القومية الانفصالية على رفع أصواتها بقوة وثقة، مثل “حزب البديل” في ألمانيا و”الجبهة الوطنية” في فرنسا، فضلاً عن وجود سبب تراكمي يكمن في اندثار الإيديولوجية الحزبية الأوروبية التقليدية.
كما أدى انتشار فيروس كورونا إلى إبطاء الزيادات الأخيرة في ميزانيات الدفاع الوطني، إن لم يكن تقليصها، لأن الحكومات كانت تحت الضغط لتخصيص الموارد في أماكن أخرى لمعالجة الآثار الصحية والمالية للفيروس، وخاصة في ظل الحديث عن موجة ثانية منه، والتي دفعت الدول بالفعل مثل فرنسا، إلى البدء بالاستعداد لها وتوجيه طاقاتها ومواردها نحو القطاع الصحي مما سيؤثر على قطاع الأمن على سبيل المثال، ومن المرجح أن تزيد عمليات تصنيع الأدوية والأقنعة الطبية مقابل تراجع تصنيع الأسلحة التقليدية أو غير التقليدية اللازمة لمواجهة الإرهاب، وخاصة بعد وضع تقرير للاستخبارات البلجيكية في نهاية 2020 يكشف أن اليمين المتطرف في أوروبا الغربية بدأ بتغيير نمط أنشطته، وأن قيادات بعض مجموعاته المتطرفة بدأت بأمر عناصرها بالتدريب على الرماية وحيازة أسلحة بطرق قانونية أو غير قانونية.
وهذا يضعنا أمام مقاربة عمومية تتمثل في أن ظاهرة صعود اليمين المتطرف لا تخصّ أوروبا وحدها، ولا تهدّد المهاجرين المقيمين فيها فحسب، بل هي ظاهرة تهدّد العالم بأكمله، أولاً لأن الخطاب السياسي المبنيّ على تفوق الذات من جهة، وكراهية الآخر والتخويف منه من الجهة الثانية، هو خطاب منتشر بكثرة، ثانياً لأن تطرف أقصى اليمين سوف يؤدي إلى تطرف آخر عند أقصى اليسار، وإلى تطرف ثالث عند المهاجرين. والخطورة الثالثة هي خطورة مادية ومباشرة، إذ باتت أماكن تجمع المهاجرين هدفاً متوقعاً لما بات يعرف بإرهاب أقصى اليمين (Far-right terror). الخطورة الرابعة هي أن الخطاب الذي نسمعه من اليمين المتطرف، داخل النظم الكبرى إيطاليا والنمسا وألمانيا وهولندا والدانمارك وأميركا والبرازيل.. هو خطاب ما دون مستوى السياسة، يعتمد على إثارة الغرائز القطيعية في الناخبين، وعلى شيطنة الآخر والتخويف منه، وهو ما قد تقلّده النظم الأخرى.