رسالة من تحت الرمل
مساء الخير سيدتي:
كأي مغترب يجلسُ في مقهى وسط شارع في مدينة بعيدة -أوروبية مثلاً- لا يعرف عنها إلا اليسير، أجلس على كرسي في مقهى موجود في دمشق، مقهى يقع في مدينة لا أعرف عنها إلا اليسير أيضاً، وأودّ أن أفعل كما فعل أسلافي الذين وجدوا في المقهى بين زحام الدخان والصياح الهادر لحناجير “الأراكيل”، ملاذاً مناسباً لبثك مشاعرهم، أودّ أنا أيضاً أن أكتب لك رسالة كلاسيكية نوعاً ما، لكنها أيضاً ليست كلاسيكية تماماً كما كانت الحال دائماً.
أرجو ألا يكون حديثي عن الاغتراب الداخلي سبّب لكِ أي حساسية من أي نوع، فحتى اللحظة لم نجد حلاً مناسباً لحساسيتك المفرطة من كل ما له علاقة بالحنين وحالاته، لذا أرجو ألا يزعجك ما سأقوله هنا، عن كيف تحوّلت ملامح البلاد الرقيقة عندنا ياسمينة، عريشة عنب، دولاب هوا، سكاكر، إلى اسمنت والكثير من المطاعم بأنواعها الصيني، الهندي، التركي، الإيطالي، الفرنسي، الانكليزي.. وغيرها، تتناكف بأكتافها المسلّحة على قارعة الرصيف، وعن المباني التي غيّرت جلدها العتيق إلى واجهات بلورية لامعة، حيادية، مملّة، تكاد لا تعكس إلا صوراً بائسة عن بشر وتواريخ وأمكنة كانت هنا وربما لم تكن! أودّ أن أخبرك عن حال العشاق العابثين أيضاً، الذين مرّوا من هنا في زمن مضى وذهبوا، بقيت أصوات صفيرهم مرمية على الأرض كحمالة مفاتيح ليست لأحد، “التنانير” الرهيفة أيضاً ذهبت موضتها، هل تتخيّلين ما أصعب أن تكون المرأة امرأة بلا “تنورة”؟ تستطيعين القول إنك تنظرين الآن إلى صورة فوتوغرافية عتيقة، بهتت ألوانها وتكسّرت الابتسامات السعيدة لمن سجنتهم إلى الأبد فيها.
هل لاحظت أنها ليست رسالة كلاسيكية تماماً من البداية؟ عندما اخترت أن أقول لكِ في بدايتها “مساء الخير سيدتي”، على عكس ما جرت العادة كما تعرفين وفق خبرتك بنا وخبرتك برسائل معلمينا السابقين، عندما كانوا يفتتحون أي رسالة منهم إليكِ بـ “صباح الخير سيدتي”، ثم تليها “الكليشة” التي لا بد أنكِ أيضاً اعتدت عليها وحفظتها عن ظهر قلب.
عليك أن تهملي أيضاً هذا التفصيل البسيط وغير الضروري باعتباره أداة تتغيّر، أهملي تفصيل أنني أكتبها على الكيبورد لا على الورقة، أنا لا أريق دم الحبر على عذريات البياض “الورق” كما يحب معلمونا الذين شقوا هذه الهاوية بيننا، يا لها من هاوية عريقة يا سيدتي الجالسة إلى شباك، كما الحكاية تنعسين فتحترق القلوب.
ليس من العسير أن أجد موضوعاً أخوض فيه إليك في الرسالة كما تظنين أو كما وصلك من الهذيان الذي سبق هذا، إلا أن الشاق هو كل هذا الرمل الذي بدأ بالتسرّب من جيوبي ومن أنفي وعيوني أيضاً، وأنا جالس في مقهى، وحولي أناس يجلسون ولا ذنب لهم في ذلك، شاب وصبية يتحدثان عن الحب مخلوطاً بكوكتيل أحاديث أخرى كالزحام والحرب والغلاء وندرة الهواء الصالح للتنفس، وذاك شاب يرسل “مسجات” إلكترونية متلاحقة، كما لو أنه يريد أن يلقي ما في داخله دفعة واحدة، حتى أن ملامحه ودون أن يشعر تتغيّر بين الرسالة والأخرى، والرمل بدأ يرتفع من حولي وأنا محرج جداً من هؤلاء الضيوف الذي اختاروا الوقت غير المناسب ليكونوا قربي في هذا القسط الكئيب من اليوم.
لكن يجب أن أخبرك هذا الأمر العالق في حلقي كمفتاح ربط نسيه “موال” كان يعمل على إصلاح حبالي الصوتية، من الضروري أن تعرفي لماذا كل هذا الرمل الذي ستجدينه بين سطور هذه الرسالة، يجب أن تعرفي أن كل شيء صار مبهرجاً وبراقاً ولامعاً وغرائبياً حيث أنا، الأمكنة والناس وحتى الوقت، غرابة نادرة لا تلاحظينها كل يوم، ترين مثلاً لعبة “الأفعوانية” المخيفة تلتفّ على بعضها في الفضاء والناس يصرخون من الرعب وكأنهم عشاقه، وفي خلفية المشهد عمود دخان كبير، يصدر من جهة قريبة حيث كانت الحرب تعرض فصولها الأربعة كل يوم علينا، وعلى الرصيف المقابل أسرة بثياب النوم التي هي نفسها ثياب العمل، تنام تحت جسر للمشاة! ألا يشبه هذا المشهد إحدى لوحات دالي المجنونة؟ لن أخبرك عن حال مسارحنا ودور سينمانا وحالنا بشكل عام، لأنني تعبت من الحديث عنها، لكن كان لا بد لي أن أضرب لك المثل عن لعبة “الأفعوانية” والصراخ والناس النائمين أو الموتى لا فرق، لتعرفي جانباً مما حدث في غيابك.
أنا الآن مضطر للتوقف عن الكتابة لكِ، تحت ضغط هذا الجبل الصغير من الرمل الذي صار أمامي على لوحة المفاتيح وفي فنجان الشاي وحتى في حقيبة جارتي المتروكة وكأنها امرأة مهجورة ينوح بداخلها العطر، هذا الرمل صوته شاحب يا سيدتي.
تمّام علي بركات