بعد تفكك الطبقة الوسطى.. أمريكا تغازل “الجماعية”
عناية ناصر
شهدت العقود العديدة الماضية اندفاعاً من قبل فئة القيادة في أمريكا لجعل هوية الجماعة هي الفئة المهيمنة في تفكير الأمريكيين، وممارستهم للسياسة، ويبدو أن قلة في القمة يهتمون بكيفية استجابة الجمهور على الأرجح للحلول الجماعية التي لا تفضّل فقط مجموعة من الناس على أخرى، بل ستدفن مرة واحدة وإلى الأبد التأكيد الأمريكي الجوهري بأن التاريخ في النهاية لا يمكن بناؤه إلا من خلال الفرد، لأنه يرتكز على محتوى شخصيته، وليس على عمل حكومي.
إن إضفاء القلة على النخب الأمريكية والإفقار الموازي للمواطنين هو القصة الحقيقية المكبوتة وراء البلقنة الجارية في البلاد، في حين أن السرد المفضّل هو أن الظلم العنصري والجنساني يجب التغلب عليه بأمر تنفيذي، لقد أدى الإفقار النسبي للطبقة الوسطى الأمريكية إلى تدهور قدرة المواطنين على الحكم الذاتي، وشجع النخبة المنفصلة بشكل متزايد على الانغماس في التجارب السياسية القائمة على المجموعة، مع إعادة هندسة الأمة وفقاً لمفاهيم متغيرة باستمرار، “الإنصاف والعدالة الاجتماعية” كهدف نهائي.
قبل انتشار جائحة COVID مباشرة، كان ما يقرب من ثلث الأمريكيين يعيشون في أسر من الطبقة الدنيا، بمتوسط دخل يزيد قليلاً عن 25000 دولار في السنة، أي أقل من ثلثي متوسط الدخل في أمريكا، وفي عام 2015، انخفض عدد أسر الطبقة المتوسطة إلى أقل من 50 في المئة، مع عمليات الإغلاق التي دمّرت الشركات الصغيرة، في المقابل، في الخمسينيات من القرن الماضي، كان ثلثا الأسر الأمريكية من الطبقة الوسطى يعيشون بشكل مريح، في حين أن نصف الأسر اليوم ينتمون إلى الطبقة الوسطى، وفقاً لمركز بيو، إلا أن الفجوة بين عائدات الأسر ذات الدخل المتوسط والعالي كانت في عام 2014 الأوسع في التاريخ الأمريكي.
لقد كان تلاشي الطبقة الوسطى نتيجة ثانوية يمكن التنبؤ بها من عمليات نقل الشركات الصناعية الأمريكية إلى الخارج، وقد تم التقليل من تأثير ذلك، وهو اتجاه تسارع بسبب التنصل المستمر من قيمها وأنماط حياتها من قبل صنّاع الرأي في أمريكا، لقد شهد 80 في المئة من سكان الولايات تدهور وضعهم الاقتصادي النسبي، وأصبحت قدرتهم على التأثير في سياسات البلاد تتهمش بشكل متزايد، وهكذا فإن تجاهل الأوليغارشية المستمر لمخاوف أولئك الـ 80% وقيمهم وتفضيلاتهم هو وصفة لتعميق الاستقطاب، وعدم الاستقرار السياسي، والمزيد من الاضطرابات.
كانت الجماعية مناقضة تاريخياً للمجتمع الحر، لأنها في نهاية المطاف تضعف الفرد وتكممه. ولذلك فإن ما يجعل مغازلة أمريكا للجماعية ملفتاً للنظر هو أن العرق والجنس، وليس الطبقة، أصبحا الأسلوب المهيمن في الخطاب حول مظالم المجموعة، في تجاهل للواقع الأكثر تسبباً فيما يقود إلى انقسام الأمة الأمريكية.
لسنوات، تم تلقين الأمريكيين عقيدة في مدارسهم وجامعاتهم، وتم تكييفهم من خلال وسائل الإعلام التي يستهلكونها، للنظر إلى بعضهم البعض، ليس كأعضاء في مجتمع من المواطنين المعتمدين على أنفسهم، المرتبطين معاً بالالتزام بالحرية الفردية بموجب القانون، والهوية الوطنية المشتركة، والالتزام المتبادل، ولكن بشكل متزايد كمجموعة من المجموعات المتضررة، كل منها مصدق عليها من خلال مظالمها- حقيقية أو متخيّلة- وتستعد للانتقام من أفعال الأجيال الماضية.
اليوم، وصلت عملية إعادة عنصرية التاريخ الأمريكي إلى ذروتها تقريباً، لتظهر أمريكا وكأنها على استعداد للبدء بالتحلل كدولة على أسس جيوأيديولوجية، ما يعكس التوافق الإقليمي للأيديولوجيات الحصرية، أو أن نشهد انتصار اليسار الأمريكي على المواطنين المحرومين تدريجياً، وإذا لم يتم إيقاف التراجع قريباً، فمن المرجح أن تكرر النتيجة النهائية تجربة الدول الأخرى التي انحرفت في مرحلة ما من تاريخها باتجاه الهندسة الاجتماعية القائمة على المجموعة كمسار إلى مجتمع يُزعم أنه أكثر عدلاً.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بكيفية التخلي عن المثل الأعلى الأمريكي لحقوق المواطن الفردية بموجب القانون، لكن هناك أمراً واحداً مؤكداً هو أنه عندما يكون الخطاب والواقع غير متناسقين تسود الفوضى!.