هل يعلن كوفيد-19 تحولاً اجتماعياً واقتصادياً نحو الأفضل؟
إبراهيم أحمد
حققت البشرية أحياناً تقدماً اجتماعياً مهماً على أنقاض كوارث كبرى، فشهدت زوال النظام الإقطاعي في أعقاب وباء الطاعون الأسود، وقيام نظام الرعاية الاجتماعية إثر الحرب العالمية الثانية. وفي مواجهة تفشي فيروس كورونا، اتخذت حكومات عديدة تدابير كانت ترفضها حتى الآن باعتبارها من باب “اليوتوبيا”، فوزعت “شيكات” على الأفراد وعززت الرعاية الصحية للأكثر هشاشة وأمنت ملاجئ للمشردين وقطعت وعوداً بالاستثمار بكثافة في النظام الصحي. فهل تستمر هذه التدابير بعد الأزمة؟. سؤال يحمل عناوين كثيرة يحاول الإجابة عنها، فيرونيك دوبون، من “فرانس برس” مع عدد من الخبراء.
حماية للأكثر هشاشة
سلط الفيروس الضوء على أهمية دور العمال الأكثر هشاشة من سائقين وعمال صناديق وموزعين ومعلمين وممرضين يتقاضون أجوراً متدنية ولا يحظون بكثير من الاعتبار في غالب الأحيان، وهم الذين مكنّوا البلدان من الاستمرار في ظل الحجر المنزلي. ويبلغ عدد العمال المستقلين في المملكة المتحدة خمسة ملايين، ولا يحظى معظمهم بضمان اجتماعي. وخوفاً من أن يواصلوا العمل حتى إذا أصيبوا بفيروس كورونا، قررت رئاسة الحكومة منحهم تغطية صحية منذ اليوم الأول وليس في اليوم الخامس كما كان سارياً قبل ذلك، ومنحهم مساعدات البطالة الجزئية ذاتها الممنوحة للموظفين، وقدرها 80% من متوسط عائداتهم الشهرية حتى حدود 2500 جنيه إسترليني في الشهر. وإذا كان وزير المالية ريشي سوناك تحدث عن إبطاء هذه المساعدات، فإن أستاذ الأنثروبولوجيا الطبية في جامعة “يو سي إل” ديفيد نابيير رأى أنه سيكون من الصعب انتزاع هذه المكاسب منهم بالكامل بعدما “عوّل الأقوياء على الأكثر ضعفاً لضمان استمراريتهم”.
دخل أساسي شامل
حقّقت فكرة تأمين دخل أساسي شامل تقدماً في دول ومناطق شتى تمتد من هونغ كونغ وصولاً إلى الولايات المتحدة، حيث تطغى المصلحة الذاتية. وسعياً منها لضمان استمرارية الاقتصاد، قامت إدارة الرئيس الأمريكي السابق ترامب بتوزيع مبالغ مالية مباشرة تصل إلى ثلاثة آلاف دولار للعائلة ضمن خطتها لإنعاش الاقتصاد بعد الصدمة التي ألحقت ثلاثين مليون شخص حتى الآن بصفوف العاطلين عن العمل. وأظهرت دراسة أجرتها جامعة “أوكسفورد” أن 71% من الأوروبيين يؤيدون مبدأ تأمين دخل أساسي شامل، بعدما كان هذا المفهوم يعتبر “راديكالياً، بل من باب اليوتوبيا”، بحسب ما أوضح البروفسور جارتون آش.
تخصيص مليارات للمستشفيات
كان العاملون في أقسام الطوارئ والممرضات يحتجون ويتظاهرون منذ سنوات في فرنسا للمطالبة بتخصيص مزيد من الوسائل للمستشفيات التي تواجه ضغوط عمل كبرى، حين اجتاح وباء كوفيد-19 العالم فخاضوا المعركة ضده في الخطوط الأمامية وسقط العديد منهم ضحايا الفيروس. وبعدما كان الرئيس إيمانويل ماكرون يؤكد أنه لا يملك “مالاً سحرياً”، وعد بوضع خطة كثيفة للمستشفيات. وفي المملكة المتحدة التي تعتمد سياسة تقشف صارمة منذ عقد، بات رئيس الوزراء بوريس جونسون من كبار المدافعين عن نظام الرعاية الصحية المجانية “إن إتش إس” ولا سيما بعد تلقيه العلاج في مستشفى عام إثر إصابته بفيروس كورونا. وعلق أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة “وارويك” مارك هاريسون بأن قصة رئيس الوزراء الذي أنقذته هيئة الخدمات الصحية الوطنية لها وطأة شديدة، مضيفاً سيكون من الصعب على المحافظين التراجع بعد ذلك عن وعود الاستثمار في الصحة.
فنادق للمشردين
يعتبر المشردون الذين يعانون عادة وضعاً صحياً سيئاً، من الأكثر عرضة للإصابة ولا سيما حين يقيمون في ملاجئ مكتظة. وباشرت الحكومة البريطانية برنامج “الجميع في الداخل” الذي مكّن السلطات المحلية من تعبئة فنادق ونزل. وتقول الحكومة إن هذا البرنامج سمح بإيواء 5400 شخص يمثلون 90% من المشردين الذين ينامون عادة في العراء. غير أن جمعية “كرايسيس” قالت إن هذا العدد لا يشمل كل المشردين الذين تقدر عددهم الإجمالي بـ170 ألفاً في المملكة المتحدة وحذرت المتحدثة باسمها جاسمين باسران بأن العديد من الأشخاص باتوا على وشك طردهم من مساكنهم، لكن حصلت جهود خارقة من قبل الحكومة، مضيفةً هذا يثبت ما يمكن القيام به حين تتوافر الإرادة السياسية.
اقتصاد أخضر
يدعو الكثيرون إلى اغتنام عودة “يد” الدولة لتوجيه السياسة الصناعية على غرار ما حصل مع خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، وإعطاء منحى “أخضر” للاقتصاد. ودعا مدير وكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول قادة العالم إلى ضمان وضع مسألة الانتقال في مجال الطاقة في مقدم استجابتهم لوباء كوفيد. وفي فرنسا طلبت جمعية أرباب العمل تعليق التدابير البيئية المطبقة، لكن الحكومة تؤكد أنه لن يتم وقف آلية إقرار القانون لمكافحة الهدر والقانون المضاد للمواد البلاستيكية، كما تؤكد أن ضخ سبعة مليارات يورو لدعم شركة “إير فرانس” يقترن بوجوب الحد من الرحلات القصيرة وخفض الانبعاثات الملوّثة. وفي ألمانيا، قد تعمد الحكومة إلى ربط المساعدات بالتزامات من أجل المناخ.
عالم أكثر شراسة
يعتقد المستثمرون، وفق تقرير نشرته “وول ستريت جورنال” أن الاحتكار والعولمة والتكنولوجيا عوامل سيتعزز وجودها في عالم ما بعد كورونا بعد النتائج التي حققتها كل من “تسلا” و”أمازون” و “غامبل”، و”بروكتير”، عكس ما يردده بعض الخبراء الاقتصاديين، الذين يرافعون لمصلحة اضمحلال العولمة والعودة إلى التركيز على الإنتاج المحلي. ووفق “وول ستريت جورنال” لن يكون الانهيار عاماً في الولايات المتحدة والعالم، والدليل هو ظهور بعض الرابحين من الأزمة، وبينهم عمالقة “سيليكون فالي” والشركات العاملة في قطاع بيع وإنتاج المواد الاستهلاكية، وأما القطاعات الخاسرة فهي الطاقة والنقل والشركات الصغيرة والمتوسطة، لكن هناك أيضاً رابحون بين الخاسرين بحسب الصحيفة الأميركية، مثل “إيكسون” أو “شيفرون” اللتين تستطيعان الاستفادة من إفلاس منتجي النفط المستقلين في تكساس.
وفي الإطار الترفيهي ومع بداية الأزمة لجأ الأفراد في الحجر المنزلي إلى متابعة شاشاتهم، فيما هرع المتداولون في البورصة إلى متابعة أداء “نتفليكس”. وكان الرهان رابحاً، إذ تمكنت الشركة من استقطاب 16 مليون مشترك جديد خلال الفصل الأول من السنة من السنة الماضية، أي أكثر من ضعفي العدد المنتظر ليرتفع إجمالي المشتركين إلى 183 مليون مشترك حول العالم. وفي غياب إنتاج جديد، استفادت الشركة من عرضها الضخم، لكنها في النهاية ستتأثر من شلل استديوهات التصوير، لكن نموذجها الاقتصادي أثبت قوته مقارنة بديزني التي لم ينقذها موقعها الإلكتروني (50 مليون مشترك) بسبب قلة المحتوى وتسريح 100 ألف موظف. ومثل “أمازون” حقق عمالقة التكنولوجيا أرباحاً كبرى، فـ غوغل وأبل وفيسبوك ومايكروسوفت، التي تقدر قيمتها السوقية بأكثر من 5200 مليار دولار، أثبتت مقاومة استثنائية في هذه الظروف التي يعيشها العالم. فـ “أبل” على سبيل المثال جنت ثمار إستراتيجيتها التي لم تراهن فيها على الآيفون فقط، الذي تراجعت مبيعاته بنسبة 7 % بسبب إغلاق المصانع الصينية، وإنما من الخدمات المرافقة، ومايكروسوفت نجحت بفضل نشاطاتها في المعلوماتية والعمل عن بعد وأيضاً ألعاب الفيديو، فيما حلق فيسبوك بفضل الإعلانات.
وفي ميدان البنوك، فقد خرجت البنوك الأميركية قوية بعد أزمة 2008، ولم تخضع لنسب فوائد سالبة مثل البنوك الأوروبية، لكن النتائج التي نشرتها مطلع نيسان العام الماضي بدت جيدة ومفاجئة. جيدة لأن رقم أعمالها ارتفع خلال هذه الفترة، إذ ارتفع رقم أعمال المؤسسات الأربع الأولى، وهي: جي بي مورغان، وسيتي بنك، وغولدمان ساكس، وبنك أوف أميركا، ليصل إلى 23 مليار دولار. واعتبرت النتائج سيئة، لأن على هذه البنوك توفير قروض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بقيمة 6.8 مليارات دولار بالنسبة لجي بي مورغان، و3 مليارات بالنسبة لويلز فارغو. ولأول مرة لم تُتهم البنوك بأنها سبب الأزمة، وكأن العالم فيما سبق يشبه بشراسته العالم ما بعد كورونا.
وفي قطاع النفط، لأول مرة أعلنت “إيكسون” عن خسائر خلال الفصل الأول تقدر بـ640 مليون دولار، كما خفضت 10 مليارات من استثماراتها خلال عام 2020، أي الثلث، خاصة في تكساس، والأمر نفسه بالنسبة لشيفرون، ولكن هاتين الشركتين يمكن أن تراهنا على استغلال الغاز والنفط الصخري في تكساس وأوكلاهوما إلى غاية وايومنغ. وقبل الأزمة كانت هاتان الشركتان تقسمان الإنتاج على اثنين لتجنب الإفلاس الحتمي، وتواجه 100 ألف وظيفة خطر الإلغاء في تكساس، كما تواجه نصف الشركات الأميركية المستقلة، البالغ عددها 60 شركة وفق رويترز، خطر العجز عن دفع الرواتب. وبالنسبة لشركات الطيران تشكل أزمة كورونا مأساة بالنسبة لبوينغ، التي ألغت صفقة الاستحواذ على الشركة البرازيلية أمبراير.
من يدفع الفاتورة؟
رأى مارك هاريسون أن الأزمة بانعكاسها على الجميع، لها القدرة على تغيير مفهوم الناس لوقت طويل وصولاً إلى إدخال أخلاقيات إلى الحياة الاقتصادية. غير أن الأستاذ سكول سانكالب شاتورفيدي من كلية إمبيريال كوليدج بيزنيس حذر بأن للنوايا الطيبة حدوداً وبأن الحكومات ستواجه على المدى البعيد مديونية طائلة متوقعاً أن يترافق هذا السخاء مع زيادة في الضرائب.