ثقافةصحيفة البعث

“أغاني” أو هكذا تُسمى!

منذ مدة لا بأس بها وأنا أُصاب بإحباط رهيب، كلما حصل واستمعت ولو مصادفة إلى أغنية من الأغاني التي كنت أحبها -لا أدري اليوم ما هو موقفي منها بالضبط– وذلك لأفعالها الحادة في الحنين وحالاته، وكنت تعوّدت منذ بداية تكوين ذائقتي الفنية، أن تكون هذه الأغاني، مما يساهم أيضاً في تشكيل وعيي الشخصي وفق هذه الذائقة، مع مكتسبات روحية أخرى، شكّلتها عموم الفنون، كانت أفضل وأهم ما حدث لي يوماً، على عكس حالي اليوم!، فقد صار من المرهق جداً لي أن أستمع الآن إلى أغنية “زعلي طول أنا وياك” و”من يوم اللي كون يا وطني الموج”، “كيفك أنت” “قيدو شمعة” “البحر بيضحك ليه” “حلو المراكب مع المغرب وفاتوني” “إيديك بيعطوني الأمان” “لزرعلك بستان ورود”.. وغيرها، على المقلب الآخر وجدت نفسي منجرفاً بقوة نحو الأغاني التي تُصنّف بأنها هابطة، رغم أنها الأكثر شعبية بين جمهور لفترة زمنية لا بأس بها، في وسائط النقل المختلفة، في محال السهر، وفي مختلف القنوات الفضائية المتخصّصة بالأغاني، محطات الـ”إف أم” أيضاً، فقد ضبطت نفسي متلبساً وأنا مسلطن على أغنية “وين مبارح سهرانة يا بنت الـ…” وهي تصدح من نوافذ سيارة الأجرة، ولتجيء بعدها أغنية شعبية بإيقاع يجعل المستمع إليها يهتزّ دون قصده، تقول: “ياما شلتك وأنت صغير وغنيتلك أغاني، لما وعيت وصرت كبير ما توقعتك تنساني”، هبطت من السيارة وساقاي لا زال فيهما بقية رغبة بالدبكة، لكنني قمعت تلك الرغبة بشدة، فالناس حولي وسيكون عليّ أن أشرح لهم ماذا حلّ بي، سيفهمونني وربما لو عبرت سيارة أخرى تصدح منها أغان مشابهة، لعقدنا حلقة دبكة محترمة.

بعد الضبط وبعد محاولة الاستيعاب والتفكير بالموقف، جاءت فترة المحاكمة، ما الذي جعلني مطروباً مع هذه النوعية من الأغاني؟ بَعْدَ لَأي، عرفت السبب، أحد الفتية من أولاد الجيران، راح يستمع من خلال جواله، لأغنية تسري كالنار في الهشيم، وهي مما يوضع تحت خانة: “الغناء الشعبي”، والغناء الشعبي بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، يقول مطلع الأغنية العجيبة: “/لفلي حشيش/ سمعني غناني –أغاني- / كيف بدك ياني عيش/ محبوبي أذاني”/، لا ريب أن الأغنية احتاجت لجلسة عصف فكري، حتى جاءت كلماتها وصورها ومعانيها على هذه الدرجة من “الرفعة” و”السمو”!، أي سوقية وابتذال، وأي سوء ذاك الذي يصبّ أطراف النهار وآناء الليل، في آذان أبنائنا وهم في سنّ لا تخولهم التفريق؟. كان من الطبيعي إذن أن أطربَ للأغاني التي سمعتها في سيارة الأجرة، فهي على الأقل لا تُحرّض على الجريمة، لا تُشرعن الخراب كحل، لا تؤذي السمع ولا الفؤاد كما فعلت هذه الأغنية ومثيلاتها!، ربما تسمعها مصادفة اليوم وربما لا، هذا لا يعني أنها بلا مسؤولية، فهي من مهّدت الطريق للنمط الأخير، والله أعلم ما الطريق الذي ستمهد له “لفلي حشيش”!!.

مهمّة الأهل والمجتمع والمؤسّسات التربوية والفنية، ليست بالسهلة اليوم أبداً، فمع هذه الهجمة المتجدّدة من الانحطاط الفني، وعلى مختلف وسائل التواصل والاتصال الجماهيري، يُخشى على وعي أجيال كاملة من الانحطاط، وأخشى أن الوقت ليس في صالحنا!.

فيا أيها الساقي إليك المشتكى.

تمّام علي بركات