أقـل مـا يـقـال .. ماذا أعددنا لاقتصاد المعرفة؟
“البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي
إذا ما تناولنا اليابان كأنموذج من الدول التي اعتمدت اقتصاد المعرفة، سرعان ما نجد أن اقتصادها أضحى من أقوى الاقتصادات العالمية نتيجة استثمارها لهذه المعرفة بالشكل السليم، مع الإشارة هنا إلى نقطتين في غاية الأهمية: الأولى أنها من الدول الفقيرة بالموارد إن لم تكن معدمة لديها، والثانية خروجها المأساوي من الحرب العالمية الثانية وتعرضها لقنبلتين نوويتين لا تزال تحصد تداعياتهما إلى الآن، ومع ذلك فقد استطاعت اليابان اعتماد البحث العلمي سبيلاً موثوقاً للنهوض باقتصادها المعتمد على الفكر العلمي والبحثي، ولا يختلف اثنان على قوة الاقتصاد الياباني وغزو منتجاته ذات الجودة الفائقة لأسواق العالم، رغم افتقاده للموارد الطبيعية وخاصة النفط بالدرجة الأولى، فضلاً عن أن اليابان عبارة عن أرخبيل وليست دولة بمساحة متصلة كما أغلب الدول، ومع ذلك طوّعت كل التحديات سواء الجغرافية وشبه انعدام الموارد، أم الناجمة عن خسارتها بالحرب العالمية، باتجاه النهوض الاقتصادي معتمدة بذلك على البحث العلمي وتوظيفه باقتصاد المعرفة.
بينما في بلادنا الغنية بالموارد الطبيعية والتنوع المناخي والموقع الجغرافي المميز كبوابة عبور إلى أوروبا ومنها، إضافة إلى الخبرات المحلية العريقة بشهادة القاصي والداني، فيكاد ينعدم وجود اقتصاد المعرفة القائم بالأساس على البحث العلمي، إذ أن الأخير لم يخرج بعد من إطار الترف الفكري، أو الإنجاز بهدف الترفيع لرتبة أكاديمية ليس إلا، دونما الأخذ بعين الاعتبار باستثمار ما ينجز من أبحاث بسبب تمترس انعدام الثقة بالأخيرة…!
يؤسفنا، في هذا السياق، نقل شهادة لأحد الباحثين عن واقع تعاطي المؤسسات الإنتاجية مع البحث العلمي، مفادها أنه من خلال اطلاعه المستمر ولفترة ثلاثين عاماً على واقع المؤسسات الإنتاجية والإنشائية في وزارة الصناعة ووزارات الدولة الأخرى، ومعرفته الأكاديمية بالإمكانيات المتوافرة في كل من هذه المؤسسات ومراكز البحث العلمي والجامعات.. إلخ، لم يلحظ وجود الصيغة العلمية والبحثية المناسبة بين أي مؤسستين حتى ضمن مجال عمل الوزارة الواحدة، ولم تبد أي مؤسسة الرغبة في انطلاقة صريحة وواضحة في البحث العلمي الصناعي منذ سنين طويلة، مع العلم أن الشركات والمعامل والورش الصناعية التابعة للمؤسسة الواحدة تعاني من تراكمات للمسائل البحثية التي لم تطرح حتى تاريخه، وإن طرح بعضها يواجه أصحابها صعوبات كثيرة في إيصال فكرة البحث وخططه وهدفه إلى الجهات صاحبة العلاقة.
لا أحد ينكر أهمية أنشطة البحث العلمي – خاصة خلال القرن المنصرم – وانعكاساتها ليس على الصناعة فحسب، بل على جميع مفاصل الحياة، نتيجة لما أحدثته من تقدم اقتصادي وخدمي في الدول التي وضعته في أولويات أجندتها، وعملت جاهدة لتجسيده على أرض الواقع، دون أن تبقيه حبراً على ورق، كما هو حال أبحاثنا التي تراكم الغبار على بعضها لاعتبارات تتعلق بتزعزع الثقة بجديتها وجدواها، والبعض الآخر تم إنجازه، إما بهدف الحصول على درجة علمية متقدمة، أو بهدف الحظوة بترقية وظيفية، ما يعني أن البحث العلمي لا يزال في المراتب الدنيا من أجندتنا الحكومية وخارج مفاهيم قاموس صناعتنا الوطنية، وإن بقي الحال على ما هو عليه فإن إسفيناً جديداً سيدق بنعش الصناعة..!
في الوقت الذي نعتقد فيه أن مسؤولية وجود الهوة الشاسعة بين البحث العلمي والقطاع الخاص هي مسؤولية مشتركة، فلا الأول قدم نفسه كشريك لتطوير الاقتصاد تقنياً بشكل جاد، ولا الثاني استعان بالأول لتطوير منتجاته مفضلاً استيراد التقنية من الخارج.. نحذر من استمرار هذا التوجه وما يمكن أن يخلفه من عدم توطين التكنولوجيا محلياً وبالتالي استمرار الاعتماد على الغير لجهة تأمين خطوط الإنتاج الكفيلة بإنتاج منتجات ذات جودة ومواصفات عالية، أو لجهة توسيع دائرة الاستيراد لهذه المنتجات خاصة تلك التي ليس لها نظيراً محلياً..!.
يبقى التعويل أخيراً على مذكرة التعاون المبرمة بين وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية والهيئة العليا للبحث العلمي في مجال استثمار المعرفة لتحقيق التنمية الاقتصادية، وتحقيق الترابط الفعال بين الأجهزة الحكومية التنفيذية بمستوياتها المختلفة، والقطاعات الإنتاجية والخدمية والجهات العلمية البحثية، بما يساهم في استثمار البنية المعرفية لصالح تطوير قطاعات الاقتصاد الوطني.