دراساتصحيفة البعث

ألمانيا 2021 والخارطة الانتخابية القادمة

محمد نادر العمري

تنتظرُ ألمانيا تحديات وتغييرات صعبة وتاريخية خلال عام 2021 على جميع الصعد، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ويتصدّر أهم هذه التغييرات إنجاز الانتخابات العامة لاختيار مستشار، بعد أن أصرّت الزعيمة التاريخية للحزب المسيحي الديمقراطي المستشارة أنجيلا ميركل على الانسحاب واعتزال الحياة السياسية، على أثر شغلها هذا المنصب 16 عاماً، استطاعت خلالها هندسة معالم ألمانيا السياسية والاقتصادية في التوجهات الداخلية والخارجية. ولذلك يعدّ إنجاز الانتخابات أحد أهم التحديات التي تواجه ألمانيا في ظل مسارعة الأحزاب الألمانية لخوض الانتخابات العامة في أيلول المقبل، والتي من شأنها أن تغيّر الخريطة السياسية لألمانيا وسط غياب زعامات سياسية بقامة ميركل، وتصاعد التأييد المتنامي نسبياً للأحزاب الشعبوية يميناً ويساراً وصعود جماعات متطرفة تهدّد الحياة الديمقراطية برمتها.

أما التحدي الثاني والمتمثّل في الصعيد الاقتصادي، فإن تداعيات موجات جائحة كورونا -والتي ظنّ البعض أن الاقتصاد الألماني قد تجاوز موجتها الأولى بأقل خسائر- تلقي بظلال من الشك وعدم اليقين على قدرة أكبر اقتصاد في أوروبا وثالث أكبر اقتصاد في العالم على تجنّب التأثيرات الكارثية للجائحة على مختلف قطاعات الاقتصاد الألماني، فضلاً عن الضغوط التي تتعرّض لها ألمانيا فيما يتعلّق بوقف استكمال مشروع “خط السيل الشمالي 2” مع روسيا.

بينما يحتلّ التحدي الثالث والكامن في الصعيد الاجتماعي، حيزاً لا يُستهان به في هذه المرحلة، فلا يزال المجتمع الألماني منقسماً بشدة فيما يتعلق بقبول المهاجرين واللاجئين رغم النجاح النسبي الذي تحقّق من خلال استيعاب موجة اللجوء الكبرى التي بدأت عام 2015، ورغم انكشاف عورة الهرم السكاني المقلوب في ألمانيا، حيث تحتاج ألمانيا إلى مزيد من الأيدي العاملة الشابة في معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية لسدّ فجوة لمجتمع يمكن وصفه بــ”الشيخوخة”، هذا إضافة إلى تنامي مجموعات اليمين الشعبوي المعادية للأجانب في مختلف الولايات الألمانية وانتشارها في طيف واسع من المجتمع الألماني.

انتخابات مهمة ومصيرية

تحت هذا العنوان، تستعدّ الأحزاب الألمانية لانتخابات عامة من المقرّر أن تُجرى في شهر أيلول المقبل، وقد تغيّر هذه الانتخابات من الخريطة والتركيبة السياسية ليس في ألمانيا وحدها بل في أوروبا كلها، حتى الآن يمكن القول إنه رغم غياب ميركل عن هذه الانتخابات إلا أن حزبها المسيحي الديمقراطي قد يستمر في قيادة الحياة السياسية في ألمانيا على أساس أنه الأكثر شعبية. ووفقاً لآخر استطلاع للرأي في ألمانيا يتصدّر الاتحاد استطلاعات الرأي بفارق كبير مع حصوله على أكثر من 36% من نوايا الأصوات، رغم تآكل قاعدته الانتخابية في السنوات الأخيرة، وانقسام الحزب حول مساره المستقبلي بين تيار وسطي يدعو إلى الاستمرارية، وميول يمينية تدفع باتجاه انعطافة في السياسة.

ورغم ذلك، زادت شعبيته عقب الموجة الأولى لجائحة كورونا، والتي اجتازتها ألمانيا بنجاح كبير بفضل سياسة ميركل، وهو أيضاً الأكثر شعبية، لكن المشكلة أو التحدي المصيري هو مع أيّ من الأحزاب الأخرى سيشكّل الاتحاد المسيحي في ألمانيا الائتلاف الذي سيحكم ألمانيا لأربع سنوات أخرى، خاصة وأن الشريك التقليدي، الذي دخل في ما يُعرف باسم حكومة الائتلاف الكبير مع حزب ميركل لثماني سنوات متتالية، هو الحزب الاشتراكي الديمقراطي العاجز عن تحسين فرص فوزه بالأغلبية في الانتخابات المقبلة، ووفق ما أظهرته استطلاعات الرأي بأنه سيحصل على 16 و17% فقط من مجمل الأصوات، إذ يؤكد قادته أنهم لن يشاركوا للمرة الثالثة في حكومة الائتلاف الكبير. وفي مواجهة المحافظين، لا يزال الاشتراكيون الديمقراطيون، الشركاء التقليدين ويمثلون الأقلية حالياً في التحالف الحاكم بقيادة ميركل، ومرشحهم للمستشارية هو وزير المال الحالي أولاف شولتس المناصر للنهج المعتدل.

بل إن الحزب المسيحي الاجتماعي، توءم الحزب المسيحي الديمقراطي في ولاية بافاريا، واللذين يشكلان معاً ما يُعرف بالاتحاد المسيحي قد تراود زعماءه أحلام الترشح لمنصب المستشار، كذلك فإن خيارات الائتلاف لتكوين أغلبية في البوندستاغ قد تتغيّر بشكل كبير، وخاصة مع صعود حظوظ حزب الخضر الذي تزداد شعبيته، حيث يحظون اليوم بنحو 20% من غالبية الأصوات وباتوا أساسيين في المشهد السياسي الألماني، حيث يشاركون في حكومات 11 منطقة من بين مناطق ألمانيا الـ16، ويتقاسمون الحكم مع اليمين ومع اليسار، وهم لا يغلقون الباب في الوقت الحاضر أمام تحالف مع المسيحي الديمقراطي على المستوى الوطني، ما سيشكّل سابقة في ألمانيا، وهي خطة كان يفترض أن تبصر النور في عام 2017 لكن أفشلها إخفاق الاتفاق مع الليبراليين، ثالث شريك رئيسي لتحقيق الغالبية.

وتعرقلت مفاوضات تشكيل الحكومة السابقة بسبب ظهور لاعب جديد على الساحة الوطنية هو حزب البديل لألمانيا الذي فاز بنسبة 13% من الأصوات ودخل البرلمان الألماني للمرة الأولى، لكن نسبة تأييده تراجعت إلى أقل من 10%، ما قد يسهل المفاوضات من أجل تشكيل حكومة ذات غالبية ثابتة.

ومن المرجّح أن يخلف “أرمين لاشيت” ميركل في منصب المستشارية، وخاصة بعد ما تمكّن بكل سلاسة وهدوء من اقتناص زعامة الحزب المسيحي الديمقراطي في الانتخابات الداخلية التي شهدها الحزب بداية عام 2021، من دون تسجيل أي من الاعتراضات على نتائجها من قبل منافسيه، مما يبرهن على قوة الحزب ومدى تماسكه من جهة، ومدى التزام ممثلي أعضاء الحزب باختيار الأنجح والأقدر على تولي الزعامة وسط تحديات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي الداخلي والخارجي في ظل أزمة كورونا.

أرمين السائر على خطا ميركل، ليس غريباً على المناصب الحكومية، فهو رئيس وزراء ولاية شمال الراين فستفاليا ذات الكثافة السكانية الأكبر في ألمانيا 16 مليون نسمة، سبق له ممارسة مهنة الصحافة، وهو معروف باتجاهه الليبرالي الوسطي، أي الخط السياسي نفسه للمستشارة أنجيلا ميركل. وتجمعه بها علاقة ثقة، فقد أيّد لاشيت بشكل خاص سياسة استقبال اللاجئين في عام 2015. ولكن قربه هذا من ميركل قد يمثل عقبة أمامه، فهو إن تمسك ببرنامج عمل ميركل نفسه وتوجهاتها قد يشهد تحالفاً معارضاً له حتى من داخل حزبه، وإن اتباع برنامج مغاير قد يشهد تراجعاً لشعبية حزبه في حال حصول ارتدادات عكسية، لذلك من المرجع أن يوازن مابين الخيارين.

التداعيات الاقتصادية

على صعيد الاقتصاد فإن أكبر اقتصاد في أوروبا أصبح تحت رحمة الموجات المتتالية لجائحة كورونا في 2021، فبعد أن بدأت أعراض التعافي تظهر على الاقتصاد الألماني، وخاصة صناعة السيارات والصادرات الصيف الماضي، عقب استيعاب تداعيات الموجة الأولى للجائحة، فإن دخول ألمانيا في إغلاق جزئي واحتمالات استمرار الإغلاق في بدايات عام 2021، أعاد مرة أخرى التشاؤم والشك بقدرة الاقتصاد الألماني على معاودة النمو الإيجابي خلال 2021 كما كان متوقعاً، ورغم حزمة المساعدات الحكومية الضخمة للحيلولة دون إفلاس الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة، إلا أن آخر تقرير اقتصادي لغرفة التجارة العربية الألمانية ببرلين صدر في أواخر كانون الثاني الماضي رصد كثيراً من تراجع تقييمات مراكز الأبحاث والدراسات الاقتصادية الألمانية لقدرة مختلف القطاعات الاقتصادية على الصمود أمام ضربات كورونا المتلاحقة، بل إن نظرة من التشاؤم تسيطر على كثير من رؤساء الشركات الصغيرة والمتوسطة، وقد تواجه ألمانيا موجة إفلاس عدد كبير من الشركات، وخاصة في قطاع الخدمات وتجارة التجزئة، إذا استمرت إجراءات الإغلاق لمنع انتشار كورونا، أيضاً فإن الاقتصاد الألماني سيواجه تداعيات خروج بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة، ومعرفة موقف الإدارة الأميركية من خط الغاز الشمالي ومسألة العقوبات ومصير الرسوم على البضائع المصدّرة للولايات المتحدة.

الجانب الاجتماعي

ما زال رهن التداول والتجاذب السياسي، وخاصة في ظل استثمار ملف اللاجئين والذي سيشهد لأول مرة في تاريخ ألمانيا الحديث، ترشح لاجئ في الانتخابات القادمة، ومع ذلك يبقى هذا الملف يحمل طابعين: الأول سلبي قد يعزّز من نمو اليمين الشعبوي ويترافق مع ازدياد حالات الاعتداء على اللاجئين، والثاني إيجابي تمكّنت ألمانيا حتى اليوم من استثماره عبر توظيف إمكانات هؤلاء لتحسين القدرات المختلفة الألمانية.