دراساتصحيفة البعث

الولايات المتحدة تواصل حملتها ضد “نورد ستريم2”

سمر سامي السمارة

على الرغم من المسرحية السياسيّة التي تحدث في واشنطن حول تغيير سياستها الخارجية، فإن شيئاً لم يتغيّر منذ تولي بايدن لمنصبه، حتى أنه يصعب تمييز خطاب الإدارة الجديدة عن خطاب سابقتها. فمن التوترات الأمريكية مع الصين وإيران، إلى الضغط المستمر على روسيا، تواصل الولايات المتحدة سياستها الخارجية العدوانية، كجزء من جهودها المستمرة للحفاظ على قيادتها “للنظام الدولي” وإعادة تأكيد هيمنتها في كل مكان على وجه الأرض.

تطالُ هذه السياسة، أوروبا الغربية أيضاً، لذا بدأت دوائر المصالح السياسية والاقتصادية تبتعد عن المصالح الأمريكية، ولعلّ أفضل مثال على ذلك هو مشاركة ألمانيا في مشروع خط أنابيب “نورد ستريم 2” لتوسيع تدفق المواد الهيدروكربونية مباشرة إلى أوروبا الغربية، متجاوزاً المناطق المحتملة لعدم الاستقرار في أوروبا الشرقية التي تستهدفها الولايات المتحدة على وجه التحديد لإعاقة التعاون الروسي الأوروبي.

بلينكين صدى لمايك بومبيو

وجد وزير الخارجية الأمريكي الجديد أنتوني بلينكين نفسه، أثناء جلسة الاستماع لتأكيده أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، في اتفاق شبه إجماعي مع أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي على ضرورة الحفاظ على السياسة الأمريكية، وفيما يتعلق بـ”نورد ستريم 2″، كان ردّه على سؤال السيناتور الأمريكي تيد كروز حول التزام الإدارة الجديدة بعرقلة خط الأنابيب الروسي الألماني: “يتفق معك الرئيس بشدة على أن نورد ستريم 2 فكرة خاطئة، لقد كان واضحاً بشأن ذلك، وأنا مصمّم على بذل كلّ ما في وسعي لمنع إنجاز هذا المشروع”.

وعند سؤاله عمّا إذا كانت الإدارة الجديدة ستتصدّى للضغط الألماني ضد وقف المشروع، أجاب بلينكين: “يمكنني أن أخبرك، أن بايدن سيطلب منا استخدام كلّ وسائل الإقناع مع أصدقائنا وشركائنا بما في ذلك ألمانيا، لكي لا يمضوا قدماً في تنفيذ المشروع”.

وبحسب الموقع الرسمي للسيناتور بمجلس الشيوخ الأمريكي كروز، فإنه سيصف “نورد ستريم 2” على النحو التالي: “مشروع إذا اكتمل من شأنه أن يكافئ التوسّع الروسي، وسيضع أمن الطاقة لحلفائنا الأوروبيين، رهينة لروسيا، ويقوّض مصالح الأمن القومي لأمريكا”!، حسب زعمه..

السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان هذا الكلام صحيحاً بالفعل، فلماذا توافق ألمانيا على المشاركة في المشروع أولاً؟ ولماذا تقبل باحتمال أن “تبتزها روسيا اقتصادياً”، أو أن تعرّض “أمنها الطاقي” للخطر؟.. كيف تكون الولايات المتحدة أكثر قدرة على تقييم التهديدات التي تحيط بأوروبا فيما يتصل بأمن الطاقة ومعالجتها بشكل أفضل من أوروبا نفسها؟ وهل حقيقة أن الولايات المتحدة تسعى لبيع أوروبا “غاز الحرية” الخاص بها ليس تضارباً صارخاً في المصالح؟.

الولايات المتحدة تجرد أوروبا من حرية الاختيار

تخفي الولايات المتحدة وراء خطاباتها الرنانة –كعادتها- أجندتها الحقيقيّة، وما تقوم به لعرقلة مشروع “نورد ستريم 2” ليس إلا دليلاً على ذلك، فالولايات المتحدة هي من يعرّض أمن الطاقة الأوروبي للخطر من خلال الحدّ من الهيدروكربونات الرخيصة والمتاحة بسهولة التي توردها روسيا، وإجبار أوروبا على شراء هيدروكربونات أغلى ثمناً من الولايات المتحدة والتي يتمّ استخراجها بصورة أساسية من عملية التكسير الهيدروليكي المثيرة للجدل سياسياً وبيئياً، نظراً لأن عملية استخراج الهيدروكربونات ونقلها من الولايات المتحدة إلى أوروبا، من خلال هذه العملية أكثر تفصيلاً، فهي أيضاً أكثر تكلفة من الهيدروكربونات الروسية.

وهكذا فإن “أمن الطاقة” الذي تقدّمه الولايات المتحدة إلى أوروبا، كبديل للتدفق الثابت للهيدروكربونات الروسية يواجه معارضة سياسيّة وبيئية وحتى اقتصادية، فالتهديد بالعقوبات والضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة هو الذي يشكّل مثالاً حقيقياً على “الابتزاز الاقتصادي”.

في الواقع، الشيء الوحيد الصادق في اعتراضات واشنطن على استكمال مشروع “نورد ستريم 2” هو أنه يهدّد مصالح الأمن القومي لأمريكا. لكن لا ينبغي الخلط بين هذه الأكاذيب والدفاع الحقيقي عن الولايات المتحدة، فهي تدافع عن قوة أمريكا ونفوذها في الخارج، القوة والتأثير غير المبرّر وغير المرغوب به على نحو متزايد.

تحرك ألمانيا

نشرتْ الوسيلة الإعلامية الألمانية “دويتشه فيله” مقالاً بعنوان “نورد ستريم 2- مؤسّسة ألمانية تكافح عقوبات أمريكية محتملة”، تصف جهود ألمانيا لتخفيف حدة التأثيرات المترتبة على العقوبات الأمريكية.

أشار المقال إلى أنه في وقت سابق من هذا الشهر، أنشأت حكومة مقاطعة مكلنبورغ- بوميرانيا الغربية، مؤسّسة عامة يمكن أن تتولّى الأنشطة التي يُحتمل أن تكون خاضعة للعقوبات، لأن المؤسّسة “لا تخشى العقوبات”، وفق ما قال متحدث باسم وزارة الطاقة بالمقاطعة لـ”دويتشه فيله”.

وقال المتحدث باسم الشركة رينات جوندلاخ في بيان: “يمكن للمؤسّسة أن تعرض إمكانية الحصول على قطع الغيار والآلات الضرورية لبناء خطوط الأنابيب، وعند الضرورة، إتاحتها للشركات المشاركة. الهدف هو تأمين هذه العناصر عالية التخصّص، والتي لا ينتجها سوى عدد قليل من الشركات في العالم قبل أن تصبح غير متاحة للشراء بسبب العقوبات”.

ونظراً، لأن العقوبات الأمريكية، تستهدف في الوقت الحالي الشركات الألمانية فقط وليس الحكومة الألمانية، فإن إنشاء مؤسّسة لحماية الشركات الخاصة التي تستهدفها العقوبات، سيسمح للشركات بتجنّب العقوبات الأمريكية.

ولمواجهة ذلك، ستضطر الولايات المتحدة إلى استهداف الحكومة الألمانية مباشرة، وهي خطوة يائسة، من المرجّح أن تؤدي إلى تدهور مستمر، لا رجعة فيه في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا. وبينما قالت الإدارة الأمريكية إن العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وأوروبا كانت نتيجة إدارة ترامب، فإنه يتعيّن لهذا التصعيد أن يحدث في ظل إدارة بايدن. الأمر الذي سيؤدي أخيراً، إلى تبدّد مفاهيم الوكالة في واشنطن ويكشف بالكامل عن السياسة الخارجية الأمريكية التي تحركها مصالح مموّلي الشركات الكبرى، بما في ذلك أولئك الذين يسعون إلى جني الأموال من بيع “غاز الحرية” إلى أوروبا.

لطالما صوّرت الولايات المتحدة دولاً، مثل روسيا والصين وإيران على أنها “دول مارقة” لتبرير كل ما تقوم به، من العقوبات الاقتصادية والضغط السياسي إلى الحرب بالوكالة والتهديدات بحروب شاملة. ومع ذلك، يبدو أنه حتى أوروبا تجد نفسها الآن على الطرف المتلقي لقوة الولايات المتحدة “الناعمة” والآن “الصلبة”!.