بغداد في عيون الشعراء
قد يضاهي ويتفوّق ما قيل في بغداد من شعر على ما قيل في غيرها من المدن، فديوان الشعر في بغداد لا تسعه مجلدات، وقد سجّل الشعراء بقصائدهم جوانب كثيرة مما ألمَّ ببغداد من حوادث وكروب، مثلما سجلوا مفاخرها ومحاسنها، وهكذا الأيام تضحك حيناً وتبكي في حين آخر، وما أصدق ما قاله أحد الكتّاب الذين أرخوا للشعر في بغداد وهو الشاعر الدكتور أحمد علي إبراهيم، لكن الذي أدمع عيني وأحرق قلبي وأدماه هو ما تحمله تلك النصوص من ألم يظهر مصائب بغداد، والعجب العجاب من مفارقة أحوالها، فيوماً تجدها متوهجة تضاحك الدنيا، وفي آخر تبكي وقد أضناها الألم وأثخنتها الجراح التي شوّهت معالم جمالها، فيبكيها كل ما فيها من أناس وأرض وأحجار وجبال حتى الماء، ثم تعود بفضل الله ورجالاتها، لكن الأقدار وما تكالبت عليها من أهوال يرافقانها، فتعود تعاني وتشكو الألم (حالها هو حال المدن العظام)، ومما قيل فيها ما قاله ابن زريق البغدادي:
استودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزراء مطلعه
أما الشيخ عمر الفارض فقد قال:
أرج النسيم سرى من الزوراء سحراً فأحيا ميت الأحياء
وفي حق بغداد يقول القاضي التنوخي:
أحسن بدجلة والدجى منصوبُ والبدر في أفق السماءِ مغربُ
فكأنها فيه بساط أرزٍ وكأنها بها طراز مذهبُ
وأنشد القاضي أبو محمد البغدادي لبغداد:
سلام على بغداد في كل موطن وحق لها سني السلام المضاعف
أما الشاعر (قمر اشبيلية) فقد قال:
آهاً على بغداد وعراقها وظبائها والسحر في أحداقها
ومحالها عند الفرات بأوجهٍ تبدو أهلتها على أطواقها
وقال في وصف بغداد لما حلّت فيها الطامة الكبرى بدخول المغول إليها:
بكيت على بغداد لما فقدت نضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموماً من سرور ومن سعة تبادلنا بضيقِ
وقوم أحرقوا بالنار قسراً ونائحة تنوح على غريقِ
أما أبو سعد محمد بن خلف الهمداني فقد قال:
فدى لك يا بغداد كل مدينةٍ من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد سرت في شرق البلاد وغربها وطوقت خيلي بينها وركابيا
فلم أرَ فيها مثل بغداد منزلاً ولم أر فيها مثل دجلة واديا
وقال الشاعر إسحق الموصلي عن بغداد:
أبكي على بغداد وهي قريبة فكيف إذا ما ازددت منها غداً بعدا
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلبي لو أنا وجدنا عن فراقِ بها بدا
وقال (أبو العلاء المعري) في وداع بغداد:
أودعكم يا أهل بغداد والحشا على زفراتٍ ما ينيبن من اللذع
فبئس البديلُ الشامُ منكم وأهله على أنهم قومي وبينهم ربعي
ومن الشعراء المعاصرين (نزار قباني) قال في بغداد:
مدي بساطك واملأي أكوابي وانسي العتاب فقد نسيت عتابي
عيناك يا بغداد منذ طفولتي شمسان نائمتان في أهدابي
أما الشاعر العراقي مصطفى جمال الدين فقد قال في قصيدة له في مهرجان المربد:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر إلا ذوت ووريق عمرك أخضر
مرّت بك الدنيا وصبحك شمس ودجت عليك ووجه ليلك مقمر
بغداد بالسحر المندى بالشذا الـ فواح من حلل النسائم يقطر
وللشاعر (علي الجارم) قصيدة رائعة عن بغداد وجمالها:
بغداد يا بلد الرشيد ومنارة المجد التليد
يا بسمة لما تزل زهراء في ثغر الخلود
يا سطر مجد للعروبة به خُط في لوح الوجود
أما بعد فالحديث عن الشعر والشعراء في بغداد طويل، فها هي دار الحكمة والمدرسة المستنصرية ومجالس الرشيد والمرابد الشعرية التي تُقام في كل أنحاء العراق شاهد على عظمة بغداد، في العصر العباسي والعصور الأخرى.
د. رحيم هادي الشمخي