دراغي وحكومة الخبراء.. العمال الخاسر الأكبر
هيفاء علي
خلال تشكيلها الشهر الماضي، أعلنت جميع وسائل الإعلام الإيطالية والدولية تقريباً عن حكومة ماريو دراغي الجديدة كعملية إنقاذ باعتبار أن الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي دراغي “أنقذ اليورو” في 2010، فيما تحدثت معظم وسائل الإعلام عن “سوبر ماريو” وخطته لـ”إنقاذ إيطاليا” من خلال ضخ 209 مليارات يورو لـ “إصلاح” اقتصاد إيطاليا الراكد.
نوع “الإصلاحات” المقصود لم يذكر، خاصةً وأن هذه الحكومة لا علاقة لها بقرارات الناخبين أو الائتلافات التي خاضت الانتخابات العامة الماضية. لكن للمرة الرابعة منذ تسعينيات القرن الماضي، دعا الرئيس شخصاً تكنوقراطياً من عالم المال والبنوك لتشكيل حكومة في منتصف فترة البرلمان، واختار ثمانية من وزرائه الثلاثة والعشرين شخصيات تكنوقراط غير منتخبين، في ما يُسمّى حكومة الخبراء.
حتى لو كانت هذه الشخصيات ليست جزءاً من حزب سياسي، إلا أن لديها خلفيات وإرادات متشابهة. وزير الاقتصاد دانييلي فرانكو هو مسؤول سابق في بنك إيطاليا وهو الذي كتب رسالة البنك المركزي الأوروبي سيئة السمعة لعام 2011 التي تطلب من الحكومة تنفيذ عمليات الخصخصة وتقليص المفاوضة الجماعية. الرئيس التنفيذي السابق لشركة “فودافون” فيكتوريو كولاو، وزير الابتكار التكنولوجي والانتقال الرقمي حالياً هو شريك سابق في شركة الاستشارات الخاصة “ماكينزي”.
تمّ الكشف الآن عن تكليف هذه الشركة بصياغة الخطة الاقتصادية المستقبلية لإيطاليا، والتي سيتمّ تقديمها إلى المفوضية الأوروبية للمراجعة في نهاية الشهر المقبل. اشتهرت ماكينزي بدورها في فضيحة “إنرون”، إضافة إلى تورطها في الأزمة المالية لعام 2008، حيث شجعت على تزوير عدد كبير من أصول الرهن العقاري، ونشر اللقاح الفاشل في فرنسا، وهي مدعوة الآن لتشكيل “أجندة الإصلاح” في حكومة دراغي.
كانت صحيفة “لا ريبوبليكا” اليومية التابعة ليسار الوسط في البلاد، متحمّسة للتغيير عندما لفتت إلى أنه في مواجهة سباق مع الزمن، اتخذت حكومة دراغي موقف شركة خاصة تواجه فرصة تجارية جديدة ليست جزءاً من أعمالها الأساسية، في حين ذكرت الصحيفة نفسها في الأول من آذار الجاري أن الحاجة إلى “التعجيل” تعني أن دراغي نفسه سيضع خطة التحفيز جنباً إلى جنب مع وزير المالية فرانكو.
وبرأي مراقبين إيطاليين، فإن الافتراض القائل بأن هذا تعاون “تقني” بحت -وأن خيارات ماكينزي لن تكون سياسية- هو افتراض سخيف، خاصة وأن هذا الادعاء أيضاً موجّه إلى حدّ كبير لحكومة دراغي “الفنية”. لعقود من الزمن، تمّ تقديم وصفات الليبرالية الجديدة في إيطاليا من خلال الإجراء نفسه، مع جدول الأعمال الذي طرحه خبراء الخصخصة المنغمسون في عقيدة “الخيارات الحتمية”.
في الوقت الحالي، يتمتّع دراغي بتصنيف شعبي جيد على غرار ماريو مونتي وأسلافه الذين استمتعوا بنجاح وسائل الإعلام في الأشهر الأولى، لكن الإيطاليين سيكتشفون قريباً أن دراغي ليس لديه 209 مليارات يورو من الأموال الجديدة لإنفاقها، وهو إجمالي القروض والمنح من الصندوق الأوروبي، قبل التفكير في المساهمات الإيطالية في هذا الصندوق، بل لديه نحو 10 مليارات يورو سنوياً، وهذا مبلغ تافه مقارنة بـ160 مليار يورو التي فرضها الوباء على إيطاليا. عندما تمّ تعيينه من قبل الرئيس سيرجيو ماتاريلا، أصرّ العديد من مؤيدي دراغي على أن حكومته لن تكون مثل الحكومة التي شكلها وقادها ماريو مونتي في 2011-2013 وهي التي دمرت إجراءات التقشف التي اتخذتها وأدّت إلى انخفاض بنسبة 3٪ في الناتج المحلي الإجمالي. بينما وضع دراغي اسمه على خطاب البنك المركزي الأوروبي الذي مهّد الطريق لـ”إصلاحات” مونتي، فقد اعترف مؤخراً بأنه سيتعيّن علينا التعايش مع واقع ارتفاع الدين العام.
ومع ذلك، تؤكد التعيينات الأخيرة لدراغي أن السياسيين القدامى قد غزوا الحكومة مرة أخرى، بدليل اختيار فرانشيسكو غيافاتشي، الأستاذ في جامعة Bocconi في ميلانو، كمستشار اقتصادي، حيث إن المستشارة السابقة ماريانا مازوكاتو، من تلامذة تاتشر، مقتنعة ومدافعة عن “الرابط الخارجي” الأوروبي، أي باستخدام الاتحاد الأوروبي شروط التمويل لإعادة تشكيل سوق العمل الإيطالي والخدمات العامة.
وكما كتب لورنزو زامبوني، الكاتب الكلاسيكي، من المحتمل تماماً أن يكون هناك بعض التغيير بـ”التقشف الموسع” في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أي أن دراغي سيضع الإصلاحات الاقتصادية من خلال خفض الإنفاق العالمي. ومع ذلك، فإن تعيين منظري المدارس ماكينزي وبوكوني يشير إلى أسلوب الخصخصة نفسه، وإلغاء الضوابط التي فرضها التكنوقراط على إيطاليا لعقود من الزمن، ولم يكسبوا أبداً الدعم الشعبي. لعب بلير ماتيو رينزي دوراً حاسماً في صعود هذه الحكومة، وعلى الرغم من أن حزبه “إيطاليا فيفا” حصل على أقل من 3٪ من الأصوات، فإن التوجهات السياسية المتطابقة تظهر مرة أخرى على القائمة. ومع ذلك، فقد انحازت قوى اليسار الناعم التي دعمت الإدارة السابقة إلى دراغي، ومن المحتمل أن يكون حظر تحالف “الخمس نجوم” على تسريح العمال من أولى الخسائر في الأجندة الجديدة.
قد تبدو حكومة الخبراء جيدة، ولكن فقط إذا نسي الإيطاليون كل الجولات السابقة من عمليات “التطهير” هذه، والتي ساعدت في دفع الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا إلى ما دون المستوى الذي كان عليه في عام 1999. ولكن يبدو أن صحيفة “لا ريبوبليكا” على حق، بحسب مراقبين، في مقارنة هذه المبادرة لشركة تستخدم ماكينزي، لأن الأعمال الفاشلة ليست ديمقراطية أيضاً، ولأنه عندما يدعو المستشارون إلى إعادة الهيكلة، فإن العمال هم الخاسر الأكبر!.