أمهات على نبض الحرب..
“البعث الأسبوعية” ــ جمان بركات
منذ اللحظة الأولى تتألم كي يعيش ابنها، تخاف من المخاض لكنها لا تمانع تكرار التجربة، تقول: “سيزول الألم فور احتضاني لطفلي”، تسهر الليالي تنظر إليه وتتخيله عندما يكبر، تعاني كثيراً من تقبل فكرة ذهابه إلى الحضانة، وتدور في رأسها أفكار تدفعها للاطمئنان عليه بشكل متكرر، يكبر وتعلمه الاعتماد على نفسه، بعدها تخشى أن يصبح غير محتاج لها، تدعو له أن يجد عملاً جيداً، وعندما يسافر تتألم لغيابه، وتتمنى أن ترى ابنتها بالفستان الأبيض لكن لا تستطيع فراقها.
“الأم في عيدها” مناسبة لالتقاء هذه القلوب الكبيرة الملأى بالحنان، وفرصة أيضاً للترحم على من رحل منهن. وفي الحقيقة، منذ أعوام خلت والمناسبة تمر علينا ونحن تحت وطأة إرهاصات الحرب، بكل بشاعتها وقسوتها وجنونها، ليأتي وجه أمهاتنا – كعادته – يمارس طقوس الطمأنينة والأمان والتفاؤل والإيمان بأن الغد أفضل، فهنّ الوحيدات القادرات، ويعرفن دائماً كيف يكون صد ويلات الحرب بالحب فناً تتقنه الأم السورية باقتدار!!
بمناسبة عيد الأم كان لـ “البعث الأسبوعية” هذه الوقفات مع نساء أمهات عاملات ومتقنات لفن الحياة والعطاء وسط هذه الحرب الجائرة.
الوجه الأجمل للحياة
تستعرض المربية عبير عمران لحظاتها مع المُضغ البريئة، خلال السنوات تلك التي انصرمت، وهي رئيسة مركز الطفولة المبكرة: جاءت الحرب، وبدأت تدريجياً تأكل أحلامنا وأحلام أولادنا وتضعف همتنا، وبدأ يختل ميزان أي قرار في ظل إكراهاتها، وأضافت بشاعة الأيام مسؤولية جديدة لكل أم سورية، ولكنها كانت حافزاً لاستنهاض قواي الكامنة، فقد تكاثفت التحديات، وبدأت تتوالى الدروس والعبر مع معاكسة الظروف، وبقي عالم الطفولة يطير بي إلى فضاء أكثر شغفاً، وتعلمت من الأطفال أن الحياة لها وجهها الأجمل مهما احتدم الألم.
في الحقيقة، تعلمت من الياسمين أن لعملك الصادق الحقيقي أثر لا يزول مهما حصل، وتعلمت من الناس أن الورود التي تزرعها في القلوب تثمر الكثير من الخير، ومرت السنوات العشر وما زالت تلك الابتسامة التي ترافقني، وتصرخ في وجه الحزن: “لن تغلبني”! وتكررت المحاولات في أعمالي التطوعية والإنسانية، وفي مشروعي الذي كان وليداً في هذه الحرب المجنونة؛ ونتيجة للخبرات التي تراكمت والمشاعر التي تكدست، لم أتخل يوماً عن هدفي.. أستيقظ كل صباح لأفعل شيئاً من أجله، حتى أصبح الحلم حقيقة، وأصبح بيت التعليم المبكر وأنشطة الأطفال مشروعاً واقعاً لم أعرف بعد حدوداً لبرامجه حتى الآن.
مقام الأم
بدورها تحدثت الكاتبة حنان درويش، عضو اتحاد الكتاب العرب، عن صديقة قالت لها وهي تبكي: “منذ سنوات وأنا أقف على الحدّ الفاصل ما بين الموت والحياة، يملؤني حزن كبير.. لا أنام، والمقابر لا تنام، أخذت مني الحرب المجنونة أولادي الثلاثة، وزرعت في روحي الهمّ والقلق والأرق، وكم كانت فجيعتي كبيرة، كما هي لدى الكثيرات من الأمّهات اللواتي قدّمن فلذات أكبادهن قرابين لكرامة الوطن!”.. آلمني حديث صديقتي، وهي الأمّ الندرة، الأمّ المفخرة، الأمّ التضحية، لأنّ الأمومة ليست نظريّة نطلقها، وليست مقولة ننشرها، وليست مجرّد اصطلاح جاهز نتباهى به أمام الملأ.. إنّها البعد الحقيقي للوجود، والرحم والحضن، والاحتواء، إنّها فعل وقول ومصداقيّة وعاطفة خالصة، نمنحها للأبناء مع الرضعات الأولى، ونعلّمهم أنّ الحبّ دواء لكلّ موجوع، ومفجوع، ومجروح.. بالحبّ يصنعون المعجزات، وبالدفء يتجاوزون المحن وعثرات الأيام.
وتابعت درويش: الأمّ البهائيّة الوجدانيّة يصعب توصيفها، يصعب التعبير عنها بالكلام، وقامة الكلام صغيرة أمام قامة الأمّ التي لا يصلها أيّ وصف، ولا يُعبّر عنها بمقال، أو قصيدة. الأسرة بحاجة إلى أمّ عاقلة، ومتفهّمة، ومثقّفة، ولا أقول متعلّمة “فقط”، لأنّ الشهادة العلميّة وحدها لا تصنع إنساناً، ولا تبني أساساً، والأسرة بحاجة إلى أمّ حكيمة، خبيرة، صابرة على المحن، والصبر يأتي من تراكمات الوعي، والإيمان. بالتأكيد مشاكل الحياة كثيرة، متشعّبة، متعدّدة، لا يمكن مواجهتها، أو التغلّب عليها إلّا بمقومات تتناسب معها، وتقف حيالها ندّاً لندّ. لقد مرّ على الأمّهات في سوريّة من الأهوال والفجائع ما يفوق الوصف، ويشعل الرؤوس شيباً، حزن جرّ إلى حزن، وفقد أودى إلى فقد، وليس أكثر صعوبة من فراق الإبن، أو مرضه، أو تعرّضه لحال تدمي القلب والروح. رحم الله الشهداء، وألهم أمّهاتهم الصبر والإيمان الذي ذكرت، وحفظ أبناءنا من رهان الأيّام، وفتح لهم النوافذ لدخول الشمس، لتبقى سورية أمّنا جميعاً، مكلّلة بالنصر والأمن والاستقرار.
الحب
تستوحي الكاتبة رنا محمد تفاصيل حكاياتها من طفليها الذين ولدا في هذه الحرب القاسية. عن تجربتها قالت: طفل اليوم حزين ومنكوب، طفل ولد وكبر في الحرب والفقر والغلاء والوباء والتقنين الكهربائي وأزمة المحروقات، طفل كبر وهو يرى العنف سيد الموقف، طفل كبر وشاشات التلفاز تتفنّن بعرض المعارك والقتال، هذا العنف الذي انتقل بدوره إلى قنوات الأطفال والألعاب، هذا الطفل لا نستطيع تحميله ما لا طاقة له به، كبر قبل أوانه، وعاش الحرمان قبل أوانه، لذلك كلمة لهن: القلب الكبير والعقل الكبير والحكمة، هذا الطفل العنيد أو الكسول أو العنيف أو المتسخ الذي أمامك الآن، الله أعلم ما هي ظروفه خلف تلك الجدران التي لا يعلمها إلا الله، ومهمتي الأهم كأم في هذه المرحلة الحساسة في مجتمعنا هي ترميم ما أفسدته الحرب في نفوس الأطفال، وعدم تفريغ إزعاجي بهم قدر المستطاع، والأطفال لا يحتاجون إلا الحب ثم الحب ثم الحب، والمحبة تبرر كل شيء وتغفر كل شيء وتُعين على كل شيء.
الأمومة والحرب
الأم كائن عاطفي بطبعه مترع بمزيج من مشاعر الحب والقلق والخوف، هذا ما عبرت عنه الكاتبة إيمان بازرباشي، وتابعت: تلك العاطفة هي جزء من كينونة المرأة وهويتها، وقد سببت ظروف الحرب إلى زيادة معاناة الأم وقلقها وألقت على عاتقها مهام وواجبات جسام، من بينها مهمة إمداد أطفالها بالدفء والحنان والأمان والقوة، فهي في نظر أطفالها المصدر والمنبع لكل ما سبق.
وأضافت بازرباشي: الأم عليها أن تعطي وإن كانت لا تملك شيئاً، وتبتسم وإن كان قلبها يبكي، وربما جاعت ليشبع أطفالها، وبردت لينعم أطفالها بالدفء، وتعبت لينعموا بالراحة.. نعم هذه هي الأم تبكيها شوكة صغيرة تغز إصبع طفلها، لكنها في الوقت ذاته تتحول إلى لبؤة شرسة لمجرد أن تشعر بوجود أي خطر قد يهدد أطفالها أو يداهم حياتهم.. نعم، هي مستعدة لتكون درعاً واقياً يحمي أطفالها من كل سوء ومن كل أذى، مستعدة لتضحي بحياتها وبكل ما تملك لأجل أطفالها، وقد رأينا أمثلة كثيرة في الحرب السورية لأمهات ضحين بحياتهن لأجل أطفالهن. وأذكر، في هذا السياق، حادثة عايشتها أنا شخصياً عندما كنت أعيش في محافظة حلب وكان الإرهاب يعربد في جنباتها، كنت مع أطفالي وأسرتي نتنقل من مكان لآخر بحثاً عن الأمن والأمان الذي افتقدناه، وكنا كلما انتقلنا إلى مكان آمن تمدد الإرهاب إليه، فنسارع ونهرب منه بحثاً عن ملاذ أكثر أمناً.. أذكر أن ابني في أحد الأيام أجهش بالبكاء عندما سقطت بعض قذائف أولئك الإرهابيين قريباً من سكننا، سارعت وضممته إلى صدري لأخفف عنه وطأة الخوف، وقلت له: “لا تخف يا بني، أنا معك”. حاولت جاهدة أن أمده بالقوة ليتماسك. قلت له: “كن شجاعاً، كن قوياً كما عهدتك”، رد عليّ بصوت متهدج: “أمي أنا لست خائفاً من الموت، لكني أخشى أن تصيبني قذيفة غادرة فأصبح معاقاً!!”
تحملتُ، وتحملت أمهات سورية ما تنوء به الجبال، وما زلنا صامدين نمسك أيدي أطفالنا نمدهم بالقوة والطاقة، نشد من عضدهم، وما من خيار أمامنا إلا الاستمرار في الصمود في وجه كل الظروف والتحديات حتى نصل بهم إلى بر الأمان.
“ظل أمي”
كتب أنطون تشيخوف المئات من القصص القصيرة، ومن أجملها هذه القصة:
“لقد توفيت منذ دقيقتين.. وجدت نفسي هنا، وحدي، معي مجموعة من الملائكة، وآخرون لا أعرف ما هم، توسلت بهم أن يعيدونني إلى الحياة، من أجل زوجتي التي لا تزال صغيرة، وولدي الذي لم يرَ النور بعد. لقد كانت زوجتي حامل في شهرها الثالث، مرت عدة دقائق أخرى، جاء أحد الملائكة يحمل شيئاً يشبه شاشة التلفاز، أخبرني أن التوقيت بين الدنيا والآخرة يختلف كثيراً، الدقائق هنا تعادل الكثير من الأيام هناك: “تستطيع أن تطمئن عليهم من هنا”. قام بتشغيل الشاشة فظهرت زوجتي مباشرةً تحمل طفلاً صغيراً! الصورة كانت مسرعة جداً، الزمن كان يتغير كل دقيقة، كان ابني يكبر ويكبر، وكل شيء يتغير، غيرت زوجتي الأثاث، استطاعت أن تحصل على مرتبي التقاعدي، دخل ابني للمدرسة، تزوج أخوتي الواحد تلو الآخر، أصبح للجميع حياتهم الخاصة، مرت الكثير من الحوادث، وفي زحمة الحركة والصورة المشوشة، لاحظت شيئاً ثابتاً في الخلف، يبدو كالظل الأسود.. مرت دقائق كثيرة، ولا يزال الظل ذاته في جميع الصور، كانت تمر هنالك السنوات، كان الظل يصغر، ويخفت، ناديت على أحد الملائكة، توسلته أن يقرب لي هذا الظل حتى أراه جيداً؛ لقد كان ملاكاً عطوفاً، لم يقم فقط بتقريب الصورة، بل عرض المشهد بالتوقيت الأرضي ذاته، وما أزال هنا قابعاً في مكاني، منذ خمسة عشر عاماً، أشاهد هذا الظل يبكي فأبكي!! لم يكن هذا الظل سوى أمي”.