مجلة البعث الأسبوعية

النحاسيات مهددة بالانقراض

“البعث الأسبوعية” ــ عبد الرحمن جاويش

شكلت دمشق عبر العصور بصناعاتها اليدوية الكثيرة والمتنوعة سوقاً تجارياً كبيراً لهذه الصناعات في منطقتها والعالم، فكانت تقصدها القوافل التجارية من كل أصقاع الأرض للتبضع من صناعة حرفييها، وعلى الأخص الصناعات النحاسية، وتعتبر حرفة صناعة النحاس في تاريخ دمشق أحد مكونات الشخصية الدمشقية من خلال الورش الكثيرة التي كانت تعمل بهذه المهنة، والتي كانت منتشرة في عدة أسواق من دمشق، وأكثرها شهرة سوق النحاسين في شارع الملك فيصل، حيث كانت أيدي الحرفيين تصنع الأواني النحاسية المتنوعة التي يحتاجها المجتمع الدمشقي والمجتمعات المحيطة مثل ريف دمشق والمنطقة الجنوبية عموماً.‏‏ وكان النحاسون منذ قرنين من الزمن يستوردون صفائح النحاس من أوروبا ويقومون بطرقها في مشاغلهم ليكوّنوا منها أواني متنوعة في الشكل والوظيفة ويتفننون في تصميمها وجماليتها وإدخال النقوش والزخارف عليها مع تلبيسها بالفضة أحياناً لتأخذ رونق التحفة الفنية البديعة والباقية عبر الزمن.

يقول أبو زهير، العامل السابق في مهنة صناعة النحاس منذ أكثر من أربعين عاماً، إن أكثر ما أثر على صناعة النحاس دخول الآلات الصناعية أواخر الأربعينيات، ما أفقد الحرفة الكثير من جمالية العمل اليدوي وقلص عدد العاملين فيها فيما بعد. ويضيف إن الكثير من رفاق مهنته اضطروا لتغييرها خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات بسبب كساد منتجاتهم وضيق سبل عيشهم منها، فلم تعد الحرفة تورث من جيل إلى جيل كما كانت العادة مع الكثير من المهن الدمشقية التي اضمحلت أو أهملت أو انقرضت، وأوضح أبو زهير أن اختلاف عادات المجتمعات في دمشق وما حولها، من حيث الإقبال على الأواني النحاسية واستخدامها في الحياة اليومية، في أعمال الطهي والغسيل، واقتنائها كأوان منزلية، أو كقطع زينة وتحف فنية، والاستعاضة عنها بالأواني البلاستيكية والألمنيوم والستانلس وسواها، أثر على ازدهار هذه المهنة وجعلها مهنة تراثية سياحية أكثر منها ملبية لحاجات يومية،. وأشار إلى أن تغير طبيعة صناعة النحاس جعلها تغير أشكال منتجاتها لتتوافق مع أذواق زبائنها الجدد من السياح الأجانب والعرب، بالإضافة إلى المترفين الراغبين باقتنائها كأعمال تراثية ديكورية وتزيينيه فقط.

ويشير الحرفي أسامة اللحام، الذي ورث النحاسة عن والده، إلى أن تنوع المنتجات النحاسية كان ينتج عنه تخصص الحرفيين في أشكال وأنواع محددة من المشغولات، فهناك من يصنعون مصبات القهوة ومطاحن البن ومجامر الفحم والشمعدانات، وغيرهم يعملون على صناعة القدور والصواني، وآخرون في أدوات زينة الخيول والعربات والمتممات التزيينية. ويقول أسامة إن النحاس يخلط في أغلب الأحيان مع غيره من المعادن للتمكن من صناعة أشكال وأدوات معينة، فصناعة الأجراس والصنوج والآلات الموسيقية النحاسية  – مثلاً – تحتاج لخلط النحاس بمقادير من القصدير، وفي غيرها من الأدوات يخلط النحاس مع الرصاص.

ويوضح أبو معتز، الممتهن للرسم والزخرفة على النحاس منذ خمسين عاما، أن مهنته تحتاج للكثير من الذوق والدقة والصبر والتأني، مبيناً أن المواد الأولية المستخدمة في الرسم على النحاس هي صفائح النحاس الأحمر والأصفر التي تتراوح سماكتها ما بين 7 و8 دوزيم، وحتى 5.1 مم.‏‏ وبين أن حرفة الرسم والنقش على النحاس تعتمد على فن الزخرفة، إلى جانب تجسيد بعض المعارك الهامة في التاريخ ورسم الشخصيات التاريخية المهمة، مضيفاً إن هذه المهنة تتفرع أيضاً لعدة فروع بحيث يقوم كل حرفي بجزء من العمل لسرعة التنفيذ ودقة الإنجاز.

ويوضح محمد الخطيب، رئيس اتحاد الحرفيين بريف دمشق، أن حرفة صناعة النحاس مهنة كبيرة تتشعب فيها الاختصاصات ضمن الورشة الواحدة، فهناك الرسام الذي يخط الزخرفة والنقوش، وهناك الحفار والنقاش والمفضض، أي الذي يقوم بتنزيل معدن الفضة على الآنية النحاسية، وهناك حرفيو الكبس، وحرفيو التخريق، وكلها ترتبط بحلقة ينتج عنها في النهاية عمل فني جميل، كما أن هذه المهنة ترتبط بغيرها من المهن مثل حرفة صب وسكب النحاس، أي صهر النحاس وسكبه في قوالب لها أشكال محددة، وهي النواة الأساسية لصناعة النحاس إلى جانب مهن الخراطة والنشر والثقب والتسوية وصناعة القوالب الخشبية والرسم المهني وغيرها، وهذه المهن – رغم انقراضها نوعاً ما – نحاول في الاتحاد إعادة أنشطتها، وذك من خلال تنشيط الحرفيين وبناء القرية الحرفية ليتمكنوا من إعادة ألق الحرفة المميزة، بالإضافة إلى تقديم الدعم اللازم لإعادة العمل بهذه الحرفة التي تفتقر إليها أكثر المناطق بعد إن كانت موجودة في أزقة وحارات وأسواق دمشق وريفها، وتقتصر حالياً على سوق النحاسين في دمشق الذي يضم هذه الحرفة، ولكن ليس بألق الماضي، والمطلوب الآن دعم هذه الحرفة وتسهيل الترخيص للحرفيين العاملين فيها لتعود وتنتشر في كل مكان، لما لها من أهمية في حياة الإنسان، فلا يمكن أن نستغني عن الأواني النحاسية المختلفة في منازلنا.