مجلة البعث الأسبوعية

انحسار إنتاج الجلود بعد تراجع الثروة الحيوانية بنسبة 40%

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد العمار

قوضت سنوات الحرب أسس ودعائم صناعة الجلديات (الملابس، الأحذية، الحقائب، الجزادين، الهدايا، والإكسسوارات، وغيرها..) في البلاد، على نحو مخيف، حتى أتت على الأخضر واليابس بدءا من المنتجات والمواد الأولية والبنية التحتية وخسارة أسواق التصدير، وليس انتهاء بإغلاق الورش والمشاغل وتسريح العمالة، مع حرمان الاقتصاد طاقة تصنيعية تقدر بمئتي مليون دولار، جراء انحسار صناعة كان يرتبها المراقبون والقائمون عليها قبل الحرب ثالثة بعد النفط والقطن، سواء لجهة الحجم، أم فرص العمل المباشرة وغير المباشرة التي كانت تولدها.. ثم ماذا بعد؟ أين أصبحت هذه الصناعة؟ ما الذي تعانيه؟ وما الذي يحد من انطلاقتها؟ وكيف يمكن البحث عن دور ومساهمة مناسبين لها في الاقتصاد؟!

 

انحسر القطيع.. نقصت الجلود

ولما كانت هذه الصناعة تعتمد، بنسبة كبيرة، على الجلود المنتجة والمدبوغة محليا، فإن تراجع الثروة الحيوانية، خلال سني الحرب، أوقع المنتجين في مشكلة نقص التوريد، كمية وجودة؛ وبالرغم من أنه لم تكن تتوافر، قبل الحرب، أرقام دقيقة عن حجم الثروة الحيوانية في البلاد، إلا أن التقديرات القريبة من الواقع كانت تشير إلى ما بين 20 – 30 مليون رأس من الأغنام والأبقار والماعز والجاموس، منها حوالى 14 – 17 مليون رأس من الأغنام.

أدى النقص الملحوظ في أعداد القطيع إلى نقص إمدادات السوق المحلية من الجلود، التي تعد المحرك الرئيس لصناعة الجلديات، إذ تفيد المؤشرات الصادرة عن وزارة الزراعة وأوساط المربين إلى أن البلاد فقدت، خلال عشر سنوات، حوالى 40 بالمئة من ثروتها الحيوانية، كما تفيد بأن توزع القطيع، حتى نهاية العام الفائت، وصل بشكل تقريبي إلى حوالى تسعة ملايين رأس من الأغنام، و800 ألف من الأبقار، و1.5 مليون من الماعز، و65 ألفا من الجاموس.

 

وتراجعت الدباغة أيضا..

أدى النقص الحاصل في الجلود إلى تراجع الأعمال المرتبطة بها جميعا، سيما قطاع الدباغة، الذي كان يحركه عدد كبير من الدباغات، وصل إلى أكثر من 220 دباغة، 188 منها في دمشق، و32 في حلب، وفقا لما يؤكد رئيس لجنة صناعة الجلود في غرفة تجارة دمشق، الدكتور محمد خير درويش، الذي يقدر أنه لا يعمل سوى نحو 20 بالمئة من هذه الدباغات، وبشكل متقطع، جراء عديد المعوقات التي تحد من نشاطها..

ويقول درويش، الذي يعمل في إنتاج وتسويق الجلديات المختلفة، إن صناعتهم مهمة جدا بالنظر لقدرتها على تأمين احتياجات السوق المحلية بنسبة تتجاوز الـ 90 بالمئة، وعلى رفع معدلات التشغيل، وامتصاص فوائض البطالة، وتأمين قطع أجنبي، نتيجة تصدير الكثير من المنتجات الجلدية المرغوبة في الأسواق العربية والعالمية، لافتا إلى معاناة هذه الصناعة، جراء اتخاذ قرار بتصدير الجلود، العام الفائت، ما رفع أسعارها بأكثر من ضعفين للقدم الواحد، وإلى أهمية أن تتشاور وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية مع اتحادات غرف الصناعات والتجارة والزراعة لضمان سد احتياجات الأسواق المحلية، قبل الشروع في التصدير.

 

المعرض الأخير

أسهم معرض سيلا الدولي التصديري للأحذية والصناعات الجلدية ومستلزمات الإنتاج، الذي أقيم مؤخرا في مدينة المعارض بدمشق، بتحريك وإنعاش الطلب على المنتجات الجلدية، لكن لصناع الجلديات رأي آخر، حيث حال تذبذب أسعار الصرف ونقص المواد الأولية دون تلبية الطلبيات والعقود الموقعة في هذا المعرض، حسب درويش الذي يوضح صعوبة ضبط تكاليف الإنتاج والتسليم والتوريد، جراء هذا التذبذب، الذي تختلف باختلافه أسعار مدخلات ومخرجات الإنتاج جميعا..

 

.. وهذه الصعوبات

تشكل صناعات الجلديات إحدى الصناعات المهمة في حلب، ولكنها باتت تعاني من جملة صعوبات تعيق نموها وتهدد استمرارها؛ ويلخص الصناعي براق عطار هذه الصعوبات بغياب الكهرباء واضطرار الورش هناك للاعتماد على التغذية بنظام الـ “أمبيرات”، حيث يتكلف أسبوعيا بين 30 – 40 ألف ليرة للحصول على خمسة “أمبير”؛ والمشكلة نفسها بالنسبة لنقص الغاز الصناعي، حيث من المفترض أن يستلم الصناعي هذه المادة بمعدل مرتين إلى ثلاث، ولكنه في واقع الحال لا يستلمها إلا كل شهرين إلى ثلاثة أشهر، وفي الوقت الذي تحتاج هذه الصناعة إلى البنزين، فإن الورش العاملة لا تحصل على مخصصات منه، وتضطر لتأمينه من السوق غير النظامية..

ويسهم النقص وغلاء المواد الأولية، وفقا لعطار، في ارتفاع تكاليف المنتج النهائي، فقد دفع سعر الصرف في الأسابيع الأخيرة بالأسعار إلى مستويات غير مسبوقة؛ فمثلا، كان سعر القدم الواحد من جلد البقر قبل شهر بـ 3400 ليرة سورية، وحاليا أصبح بـ 5000 ليرة، والأمر نفسه بالنسبة للّواصق والمسامير والـ “بوسطن” (مادة لصق وتثبيت)، والـ “سنكلية” (قطع بلاستيكية توضع في مقدمة ومؤخرة الحذاء)، والنعال (PVC) الذي تصنع منه أرضية الحذاء، مشيرا إلى أن هناك شكوى عامة من صناع الأحذية تتعلق برداءة جودة هذا النعال، الذي سرعان ما يتكسر عند استخدام الزبون له لمدة شهر أو شهرين، مقترحا أن تتولى الجمعيات المختصة بهذه الصناعة شراء المواد الأولية بالجودة المناسبة، بحيث تبيعها للمنتجين بشكل مضمون، ما يخفف من تكاليف الإنتاج، ويحمي الزبون من خسائر متكررة، نتيجة عدم استدامة المنتج.

 

دعم واستمرارية الصناعة

إزاء ما تعانيه صناعة الجلديات المحلية، لا بد من تقديم الدعم المناسب الذي يضمن استمراريتها. وفي هذا السياق، يقترح صناعيون، بينهم درويش، إقامة تشاركية بين القطاعين العام والخاص في مجال الدباغة وصناعة الأحذية، بالاستفادة من الإمكانات الكبيرة التي يمتلكها القطاع العام من آلات وخطوط إنتاج ودباغات وكوادر بشرية، ومن خبرات الخاص الفنية والتقنية والتسويقية، ومرونة اتخاذ القرار البعيد عن الروتين.. كذلك فتح قنوات مصرفية مع الأسواق الخارجية تمكن المستمرين من تسديد قيمة مشترياتهم واستلام قيمة صادراتهم، مع تسهيل استيراد بعض المواد الأولية – كالصباغ والخيوط واللواصق والآلات والجلود غير المنتجة محليا – وتوفير المحروقات والطاقة اللازمة للبخّ والقص والصباغ وغيرها.. علما أن النسبة الكبيرة من الورش تعمل اليوم ضمن الأحياء السكنية، بعد أن فقدت مقارها في الضواحي والمناطق الصناعية والأرياف، وترميم نقص الكوادر البشرية الكفوءة، بعد أن هاجرت أعداد كبيرة منها، بفعل الحرب وتراجع الصناعة، وذلك عبر تأهيل وتدريب كوادر شابة، لضخ دماء جديدة في العملية الإنتاجية.

 

إلى ذلك..

بالرغم من جودة المنتجات الجلدية المحلية، وامتلاكها عديد المزايا التنافسية، إلا أننا ما زلنا لا نرى علامات تجارية معروفة ومشهورة، قياسا بتلك العلامات المعروفة حول العالم، ما يتطلب تركيز المنتجين على هذا الجانب، والاستفادة من خبرات وتجارب إقليمية وعالمية، وذلك بالتنسيق مع مديرية حماية الملكية في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، بالنظر لكونها الجهة المعنية بتسجيل وحماية هذه العلامات.