تولستوي في “آنا كارنينا”.. شعور الرجل والمرأة بالحاجة لبعضهما البعض شرط للسعادة
“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: علاء العطار
استهل تولستوي رواية آنا كارنينا بالعبارة التالية: “أسباب السعادة تتشابه، وأسباب الشقاء تتفرع إلى أغصان وأفنان”، ما يجعل الرواية مكاناً لدراسة العائلات السعيدة والتعيسة.
على الرغم من أن الرواية تدور حول العائلات التعيسة بشكل أساسي، يحبك تولستوي قصة العائلة السعيدة الوحيدة، كاترينا شيرباتسكي “كيتي” وكونستانتين ليفين “كوستيا”، بطريقة تلفت الانتباه بقدر ما تثيره قصص العائلات الأخرى. ومع أن كل علاقة عائلية أخرى تبدو وكأنها تفرق بين أفرادها، تبرز كيتي وكوستيا لأن حبهما يجعلهما أقوى. ويتمتع نيكولاي ليفين، شقيق كوستيا، بأهمية أساسية لجهة توضيح كيف تتيح لهم علاقتهما التعامل مع المشكلات التي لا يمكنهما التعامل معها بمفردهما، فنرى عجزهما عن التعامل مع مرضه قد تحول إلى فضيلة عندما يكونان معاً. وعبر استخدام حياة نيكولاي ليفين وموتة كوسيلة لتسليط الضوء على الاختلافات في شخصيتي كيتي وكونستانتين ليفين قبل زواجهما وبعده، يؤكد تولستوي على قوة الحب التحويلية، ويكشف عن قدرة الحب على موازنة نقاط ضعفنا وجعلنا متكاملين.
وصل تولستوي على الفور بين علاقة كيتي وكونستانتين وعلاقتهما مع نيكولاي، إذ يلتقي القارئ بنيكولاي لأول مرة بعد أن رفضت كيتي عرض كونستانتين الأول للزواج، ما دفع كونستانتين للتشكيك في قيمته الذاتية وهدف العالم:
“أنا الملام، بأي حق أخال أنها ستقبل العيش معي؟ من أخال نفسي؟ ما أنا إلا رجل وضيع لا فائدة ترجى منه”. وهنا يتذكر شقيقه نيكولاي ويتوقف ببهجة أثارتها ذكراه: “ألم يكن محقاً عندما قال إن كل شيء في العالم زائف وحقير؟”.
يشجب كوستيا نفسه إلى حد يثير للشفقة. ومع أن التواضع وقبول اللوم يعدان من الفضائل في معظم الأحيان، إلا أن الأمر يصل بكوستيا إلى أقصى الحدود، فيريد القنوط عندما تسوء الأمور، ويظل يهين نفسه إلى أن يشعر بأنه “عديم القيمة”. ومن خلال ربط كره كوستيا لذاته بموقف أخيه المتشائم من العالم، يوضع نيكولاي كنقيض لموقف كوستيا المتفائل عادة، إذ يقدم تولستوي نيكولاي بأنه الشخص الذي يجعل كوستيا يواجه أوغل مشاعره، حيث يصف كوستيا شقيقه بأنه “من فهمه تماماً، والذي يوقظ أوغل أفكاره، ويجعله يفضي بكل ما يعتري بصدره”. إن سبر كوستيا لأغوار نفسه يجعل منه شخصية لطيفة وذكية للغاية، لكنه يقوده في الأوقات العصيبة إلى حالة من الهوس.
لا يلفت نيكولاي الانتباه إلى إهمال كوستيا لذاته فحسب، بل إن سقمه الشديد يجعل كوستيا يتأمل الموت أيضاً، ما دفعه إلى التساؤل عن مغزى الحياة بوجه عام: “الموت هو النهاية الحتمية لكل من عليها، تعرف عليه لأول مرة عندما لمس قوته التي لا تُرد”. وباعتباره شخصية عقلانية تهوى التأمل بعمق، ينشغل كوستيا في التأمل عندما يطرح مرض نيكولاي مسألة الموت أمامه، ما يؤدي به إلى حالة من العدمية تستنزفه كلياً.
يبين اختيار تولستوي لكلمة “لا ترد” كيف أن كوستيا غارق في أفكار كهذه ولا يسعه الخلاص منها، على الرغم من أنها دفعته نحو الجنون:
“لقد نسي فعلاً، بل غفل في حياته عن حدث صغير، هو أن الموت آت لا محالة وكل من عليها فان، وأن لا فائدة من قول أي شيء، ولا يمكن فعل شيء حيال ذلك. نعم، كان وقع الأمر عليه مروعاً، لكنها الحقيقة لا غير”.
عندما قال تولستوي إن كوستيا قد نسي احتمال الموت، أكد مدى فداحة تأثير مرض نيكولاي على كوستيا، إذ يجبر مرض نيكولاي كوستيا على محاولة مواجهة السؤال الهام المتمثل بالحياة والموت، لكن كوستيا عاجز عن التعامل معها، واختار بدل ذلك التقهقر نحو حالة من اليأس المطلق: “لقد رأى الموت أو دنوه منه في كل بقعة. لكن دفن أخيه شغله الآن أكثر. وجب عليه أن يعيش حياته حتى آخر رمق، حتى يأتي الموت ليقبضها. غطت عتمة اليأس كل شيء أمامه”.
إن العدمية التي وصل إليها كوستيا غيرته من شخص منضبط مرهف الإحساس إلى متهكم شديد البرودة. جميع عيوب كوستيا التي يخرجها مرض نيكولاي (تفكيره القهري المفرط، ولومه الكامل لنفسه) هي كذلك أحمد صفاته (عقلانيته العميقة، وقدرته على تحمل مسؤولية أفعاله).
يشدد تولستوي على هذا لتبيان كيف أن الإنسان معرض بسهولة كبيرة للانزلاق في دوامة الانهيار في مواقف صعبة مثل التعامل مع وفاة أحد الأحبة. يضع هوس كوستيا بالموت ضغوطاً على علاقته مع نيكولاي لأنه عاجز عن التعبير عن مشاعره، ويشعر بدلاً من ذلك باليأس والقنوط أمام قوة الموت:
“لكان كونستانتين ليقول فقط: ستموت، ستموت، ستموت! وكان نيكولاي ليجيب فقط: أعلم أنني سأموت، لكنني مذعور، مذعور، مذعور!”.. ما كانا ليقولا شيئاً آخر، لو باحا بما في خلدهما بصدق.
ولما كان كوستيا عاجزاً عن التعامل مع فكرة الموت، هو عاجز عن أن يقف إلى جانب أخيه عندما يكون في أمس الحاجة إليه، ما يجعل علاقتهما زائفة وجوفاء.
يعرض تولستوي كيتي كشخصية ساذجة ووجدانية وسطحية تفتقر إلى العمق الأخلاقي، كما يتضح من انطباعها الأول عن نيكولاي ليفين، إذ تلتقي كيتي ونيكولاي لأول مرة في منتجع صحي، دون أن تكون كيتي على علم بهويته:
“كان هناك رجل طويل القامة، محدودب المنكبين، يداه كبيرتان، ويرتدي معطفاً قديماً قصيراً جداً عليه، وعيناه داكنتان تنمان عن سذاجة، غير أنهما مخيفتان في الوقت نفسه، وامرأة جميلة المظهر، يكسو وجهها بعض البثور، ترتدي ثوباً بالياً لا ينم عن ذوق حسن. وبعد أن أدركت أن هذين الشخصين من روسيا، بدأت كيتي تنسج في مخيلتها عنهما قصة حب مؤثرة وجميلة”.
يجعل تولستوي كيتي تبدو وكأنها طفلة تتخيل قصصاً خرافية في كل ركن تنظر إليه. ويؤكد انتباهها الشديد للتفاصيل على مدى الأهمية التي توليها للمظاهر. وبعد أن علمت أن هذين هما نيكولاي وماريا نيكولاييفنا، وسمعت والدتها تعنفهما، غيرت كيتي رأيها بسرعة: “فجأة أصبح هذان الشخصان كريهين في نظرها، فقد أثار ليفين في نفسها اشمئزازاً لا يمكن كبته لأنه مصاب برعشة تجعل رأسه ينتفض كل حين”. بدل أن تتعاطف مع شخص مريض، تُظهر كيتي افتقارها إلى هذه المشاعر عبر شعورها بالاشمئزاز. يُظهر رأي كيتي الأول عن نيكولاي مدى سهولة تأثرها بآراء الآخرين، وكيف تشكل آراء عن الآخرين بحسب مظهرهم، كما يفعل الطفل.
عندما كان كوستيا وكيتي مستقلين عن بعضهما، كانا عاجزين عن التعامل مع نيكولاي بشكل ملائم، لكن عندما اجتمعا معاً بعد زواجهما كانا قادرين على مواجهة الموت، وعلى تهوين انتقال نيكولاي من الحياة إلى الموت، ما يدل على قوة الزواج السعيد. يكشف مشهد موت نيكولاي عن مستوى جديد من العمق الأخلاقي داخل كيتي، إذ إنها تبدي إيثارها وتعاطفها عندما يرفض كوستيا أن تأتي معه إلى نيكولاي القابع على فراش الموت، لكنها تصر على ذلك قائلة: “يجب أن تفهم أنه يصعب عليّ كثيراً أن أراك ولا أراه، علّي أكون ذات عون لك وله. لطفاً، ائذن لي بمرافقتك!”. توسلت إلى زوجها، وكأن سعادتها تتوقف على ذلك. على الرغم من أن تولستوي أعد كيتي سابقاً لتكون شخصية سطحية، يتكشف في هذا المشهد جانب جديد لها حين تظهر عمق حبها لزوجها، وتربط سعادتها بسعادته.
وبالرغم من أن منظر نيكولاي وهو على فراش الموت أكثر إثارة للاشمئزاز مما كان عليه عندما رأته أول مرة، لم تعد تعتبره مثيراً للاشمئزاز، بل كانت تنظر إليه بعين الحب والحنو: “عندما رأت الرجل المريض، أشفقت عليه. ولم تُحدث الشفقة التي ملأت في روحها الأنثوية أي إحساس بالذعر أو بالغثيان كما فعلت بزوجها، بل الحاجة إلى التصرف بسرعة لتعرف كل تفاصيل حالته وتساعده في حلها”. إن وصفها بأنها تتمتع بـ “روح أنثوية” يحقق هدفين، فهو يوضح أن كيتي بالغة ولم تعد طفلة، فضلاً عن إظهار أن هذه المرأة تمتلك قوة التعاطف والحنو التي لا يمتلكها الرجال.
يبين استخدام مصطلحات عامة مثل “امرأة” و “زوج”، بدلاً استخدام اسمي كيتي وكوستيا، كيف يحاول تولستوي أن يعبر عن طبيعتي الرجال والنساء بصورة عامة تقبل التطبيق. يبني تولستوي على هذه الفكرة عن النساء، القابلة للتطبيق عموماً، كجنس يمكن أن يتعامل مع الموت بشكل أفضل من الرجال بكثير، ما يضعه في جهة تعارض جهة الرجال باعتبارهم مفكرين: “العديد من العقول الذكورية العظيمة، الذين قرأ عن أفكارهم حول الموت، تأملوا الموت كثيراً، لكنهم لم يعرفوا ولو جزءاً صغيراً مما عرفته زوجته وأغافيا ميخائيلوفنا عن الموت”. يؤكد تولستوي تكامل الرجل والمرأة، والحاجة إلى إيجاد توازن بين طريقة تفكير الذكر العقلانية وروح الأنثى العاطفية.
وعلى الرغم من أن عقل كوستيا المفرط في التفكير واندفاع كيتي في اتباع انطباعاتها وعواطفها يعدان عيبين عندما يكونان مستقلين عن بعضهما لأنهما يصلان إلى أقصى الحدود، إلا أنهما يصبحان معاً متوازنين بحيث يمكنهما التعامل مع أي موقف. هذه السمات نفسها التي جعلت كيتي تشعر بالاشمئزاز من نيكولاي قبل أن تجعلها قادرة على الاهتمام لأمره كثيراً عندما يموت لأنها مغرمة بكوستيا. عندما يجاور تولستوي بين رد فعل كوستيا على وفاة أخيه قبل أن يتزوج كيتي وبعد زواجهما، نرى أنه يدعم الرأي القائل إن للحب تأثيراً بالغاً:
تجدد في روح ليفين مشهد شقيقه وقربه من الموت، ذلك الشعور بالخوف من المجهول ومن دنو الموت وحتميته، ذلك الشعور الذي استحوذ على تفكيره مساء ذلك الخريف عندما جاء شقيقه لزيارته. كان الشعور الآن أقوى من ذي قبل، إذ شعر أنه أضعف قدرة على فهم معنى الموت من ذي قبل، وبدت حتميته أكثر فظاعة في نظره، ولكن الآن، بفضل قرب زوجته، لم يدفعه ذلك الشعور نحو شرك اليأس، فعلى الرغم من موت أخيه، شعر بضرورة العيش والحب. لقد شعر أن الحب أنقذه من براثن القنوط، وأن هذا الحب أصبح أقوى وأنقى بعد أن وقف كحصن منيع أمام اليأس.
بينما يقر تولستوي بأن عيب ليفين المتمثل بإفراطه بالتفكير لا يزال موجوداً، فإن زوجته تجعله قادراً على رؤية هدف أسمى في الحياة، وسبباً للمضي قدماً، وسبباً ليستخدم عقله مفرط النشاط وقلبه في سبيل الخير. بعبارة أخرى، لا تجعله كيتي أكثر قدرة على التعامل مع وفاة نيكولاي فحسب، بل تمنحه أيضاً سبباً للعيش.
يستخدم تولستوي حياة نيكولاي وموته كوسيلة للحديث عن اعتماد الرجال والنساء على بعضهم بعضاً. ويوضح هذه الفكرة الأكبر من خلال الطريقة التي يحتاج بها كوستيا وكيتي إلى بعضهما بعضاً للتعامل مع وفاة نيكولاي، وهو موضوع لم يكن بمقدورهما التعامل معه بمفردهما سابقاً. منذ أن بدأ الرواية بعبارة “أسباب السعادة تتشابه”، حاول تولستوي أن يجعل بيانه حول حاجة الرجال والنساء إلى بعضهم بعضاً حقيقة عالمية تصح في جميع العائلات السعيدة.