سيدة الفن الراقي
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
صدقنا كذبها الحلو وفتحنا شبابيك أرواحنا لألوانها الغنائية، واستنجدنا بطيبتها لنداوي جروح أحبتنا. كان غناؤها يتدفق غديراً من الوداد، يسري برقته على أرواحنا بريقاً يضيء سجايانا، يأتينا صوتها كما الشمس تحيي عشبة داهمها صقيع الليل يسري يخضورها الدافئ إلينا نغمات تناغي مسمعنا، تغمرنا بموسيقا أغانيها وتمنحنا طاقة من حب نستعين بها على لهاثنا اليومي، وأمام رهبة الموت، حيث يضيق أفق الكلمات، لنرى أنفسنا على حافة الفقد نودّع ونستذكر أعزاء فارقونا، جمعتنا بهم الحياة وتقاسمنا معهم رغيف أفراحها وأحزانها، لكن هناك حالات تستحق الوقوف عندها، فمنذ أيام ودّعنا قامة فنية إبداعية متميزة رفعت مرساتها باتجاه الشاطئ الآخر. ترحل ميادة بسيليس التي أعطت الفن نداوة روحها وعمرها، فشكلت أغنياتها شجرة وارفة الحياة، وحالة عطاء لا تنضب، أغنية خلّدتها رمزاً للفن الملتزم لتصبح الكلمة واللحن رئتها التي تتنفس منها الحياة، تشهرها سلاحاً في وجه هذا القبح الذي يتطاول على كل ما هو جميل، إذ كانت بسيليس تلوّن أغنياتها بأزاهير الحب وتنسج خميلة انتمائها على روحها ألقاً تعيش لحظاتها على وقع نبضها، فتسبقه وتسبق الزمن الأرضي إلى زمن من فن وإبداع.. زمن الفن السوري الأصيل.
غادرتنا الفنانة ميادة بسيليس منذ أيام إلى فضاء ربما يكون أكثر رحابة ورأفة بها بعد أن تشاركت مع وطنها سورية وجع عشر سنوات وقاومته، لكن القلب خانها وتوقف عن النبض لتترك لأهلها وأصدقائها بعضاً من ذكرياتها، سواء عبر تعاملها الإنساني، أم عبر الألبومات الغنائية التي ستبقى إرثاً فنياً للأجيال القادمة. فبالأمس كانت بيننا تشاركنا تفاصيل أيامنا بكل حالاتها، هذه الغيمة العطرة التي أرّقها الوجع على بلد مثّل لها ولشريك حياتها المايسترو سمير كويفاتي أيقونة من حب كانا حريصان عليها، هذا الوطن الذي رسمته حلماً من حب ارتسمت حوله تطلعاتها وأمانيها فحملته في وجدانها أمانة وكان الحلم في أبهى حالاته.
برزت موهبة الفنانة بسيليس في الغناء منذ الصغر، ولمع صوتها في أداء الترانيم الدينية المسيحية، إلا أن بدايتها الحقيقية كانت في العشرين إذ أعلنت عن نفسها بثقة من خلال غناء عدد من الأعمال الفلكلورية والوطنية، وتميزت بالحفاظ على وقار الفنان. لم تعتمد على جمالها في تقديم نفسها، بل اعتمدت على موهبتها الطربية، فاجتذبت حب وثقة الجماهير العربية، كما شهدت اختياراتها الفنية تنوعاً كبيراً، فلقبها جمهورها بـ “سيدة الأغنية السورية”، حيث قدمت كل أغانيها بكلمات وألحان سورية. ومع مرور الأيام وصقل التجربة أصبحت ميادة مطربة من العيار المدهش. وتعد أغنية “كذبك حلو”- التي شغفنا بها جميعاً كما بكل أغنياتها- سبب شهرتها عربياً، وحازت عليها الكثير من الجوائز.
آلمها كثيراً ما حصل في مدينتها حلب من دمار وخراب، فغنت لها “مشتاقة أنا أغمر كل حجار الـ فيكي وعمرها من جديد.. الفرح ما بيموت.. ولا بيعرف يبكي”، وهاهي تعود إليها تلتحف ترابها وتحتمي به من وحشة الموت، ليخلدها فنها علماً من أعلامها.. اليوم يقف أصدقاؤها وأحبتها في حضرة الفقد لفنانة غادرتهم وتركتهم للحزن يحرس ذاكرتهم ويفتحها على المقبل من الأيام، فالحزن وحده يرتل الصلوات ويلتقط من طبقات الأثير تلك الضحكات التي كانت يطلقها وهو يروي حكايات وطنه عبر أغنياته وأفلامه وشعره.. تلك الضحكات المتعذرة الآن وتلك النبرة الملونة بخضرة روحه.. رحل باكراً ومعركة الحياة لا تزال في ذروتها، فكيف اقتنع أن يسلم روحه النابضة بالحياة للموت بهذه البساطة، هو الذي كان ينشر الفرح في أرواح من حوله والذين أصبح في وجدانهم آهة غصة.. لترقد روحك في الفردوس الأعلى بسلام سيدة الفن والحضور البهي، كنت مثالاً في العطاء وستبقى ذكراك منارة للأجيال في مشوارهم الطويل.