على خاطر ألفة وهبوب غيمة.. اتحاد الكتاب العرب يحيي يوم الشعر العالمي
على خاطر ألفة وهبوب غيمة، خطرت بأمطارها وحروفها في سماء البهية دمشق، وفي حصن منيع من حصون الضاد فيها، احتفل اتحاد الكتاب العرب باليوم العالمي للشعر، مقيماً احتفالية شعرية كما ينبغي للشعر، بهي، راق، محرض، فاعل ومنفعل، أحياها مجموعة من شعراء جمعية الشعر في الاتحاد، وهم “أحلام بناوي، أسامة الحمود، باسل أحمد العلي، رجب كامل عثمان، عبدالله العبد، عبد النور الهنداوي، عباس حيروقة، غالب جازية، فرحان الخطيب، قحطان بيرقدار، محمود حامد” شعراء سكبوا فيها من مزن خيالاتهم ما سكبوا، أباريق ضوء وأقواس قزح، منها ما غسل القلوب فأينعت، ومنها ما حاجر المياه الراكدة في زمن كثر فيه “الشعراء” وشح فيه الشعر، لتجيء هذه الفعالية الشعرية، محمولة على هبوب الكلام وما تثيره المعاني والصور، من مشاعر اختلطت فيها البهجة مع رائق الحزن، الفخر مع بديع الغزل، الجمال بسكره وملحه، وهذا ما هو مأمول من هذا الفن العظيم، خصوصاً في الوقت العصيب الذي يمر به، على ألسنة تنصب الفاعل وترفع المفعول به، وأقلام تجر الخبر وتتباهى بالنقاط السوداء كنهاية حتمية أو امتداد غير مفهوم لما يجول في خواطر حبرها أو “كيبوردها”!
الفعالية التي أدارتها برقيق الكلام وعذوبة الوصف، الشاعرة هيلانة عطا الله، مقدمة الشعراء من وحي شعرهم، وما تركه في دواخلها من أثر، تنوعت أوصافها، وتشاكلت نعوتها وهي تُقدم الشعراء، فلان الجو المشحون بــ”فلاشات المصورين”، وهدأت ثائرة النفوس التي وترتها أصوات “الثرثرات” الجانبية هنا وهناك، ليبدأ الدوران في حضرة الوصف، ترتقي النفوس، تعلو تارة ويخفت ضجيج أجنحتها تارة على إيقاع الكلام.
تناوب الشعراء الذين انهمروا من عديد المحافظات السورية (حمص، درعا، السويداء، دمشق، حماة وغيرها) على المنبر، كل يعتريه هاجسه أو شيطانه الشعري، منهم من تداعى برقيق الكلام متخذاً من الغزل موضوعه الأثير، ومنهم من نزّ الفخر من قصيدته على مسامع الحضور، ومنهم من خاض بلجة الشعر قتامة الوقت، جامعاً من البيان وسحر الوصف حطباً أضرمه في أكف الحضور وصدورهم، حلقت الشاعرة أحلام بناوي في عوالم الغزل البهي، وهي تخاطب الفحولة من بارق الخفر والعذوبة قائلة:
زَرِّرْ قميصَكَ قلبي ليس يحتَمِلُ لا يُنصِفُ الحُسنُ بدراً حين يكتمِلُ
من أطلقَ الشّمسَ من تحت القميصِ ضُحى حتى احترقتُ وفاضت بالندى المُقَل
كتابُ صَدرِكَ مفتوحٌ وبي شَغَفٌ إلى القراءة، كم أغرتنيَ الجُمَلُ
أمي تقول إذا لاح الكتاب هدىً فقَبِّليه كما شاءت لكِ القُبَلُ
لله زِرُّكَ كيف النّارُ تلفَحُهُ فلا يذوبُ، و بي من وَهْجِها شَلَلُ
وارتقى الشاعر قحطان بيرقدار بمشاكلة قصائد الكبير نزار قباني، معاتباً زمناً ينبت فيه “الشعراء” الطارئين، وتغيب فيه أعراف الأفراس المنيرة في بحور القول، وارتقى الشاعر عباس حيروقة معارج الوصف وهو يرفع مواقيت السلام لأرواح الشهداء، صُناع الحقائق الكرام، وجاء في قصيدته:
مهما سَنكْتُبُ كَمْ يبدو هنا هذَرُ في موكبِ الخُلْدِ كلُّ الشعرِ يعتذرُ
ماذا سنكتبُ وجهُ الماءِ صورتُهمْ والنهرُ يَشْهَدُ كَمْ فاضتْ به الصّورُ ؟؟
والمزنُ يَهميْ إلى أرضٍ بها الـ صدقوا ما عاهدوا الله.. يا نعماكَ يا مطرُ
مُزنٌ تَعَمّدَ من أنداء جبهتهم فَفَاضَ في الأرضِ عطراً ضاعَ ينتَشِرُ
ومن مقولة “الغناء مقود الشعر”، تطاولت حروف الشاعر باسل أحمد علي وهو يُلقي السلام على الشعر وأهله الكرام في بيت الشعر والشعراء، ليمضي الوقت كرفة حجل في ملعب النسيم، لا عبء فيه على الحضور، وليكمل بقية الشعراء رسم هذا المشهد بما جادت وفاضت به أنفسهم، وانسكب منها حبق الكلام.
بالتأكيد تفاوت المستوى بين شاعر وآخر، وعلت همم الكلام هنا وانخفض بريقها هناك، وهذا ما حرص على قوله بكل شفافية د.محمد الحوراني رئيس الاتحاد وهو يرحب بالحضور، معتبراً أنه ما من مستوى واحد لمتون القول، فالشعراء الذين تناوبوا على سكب خمر المعنى، منهم من صبّ الجمال بديعاً في النفوس، ومنهم من حام حول ذاك العبق، لكن الأكيد كما أخبر، هو أن ما جاء في هذه الفعالية، أعاد للنفس حبور حضورها ومحبتها للشعر، بعد أن سئمت مما يُهذر فيه على أنه من “الشعر” في هذا المنبر أو ذاك، والشعر منه براء، وذلك في زمن كثر فيه الدخلاء على هذا الجنس الأدبي البديع.
ولأن الختام لا يكون إلا مسكاً، ولأن الضوء لا يرتقي عراه إلا الضوء، ولأن الكروم تخبئ بهي عصيرها في دنان الفصول، كان الختام مع تكريم للشاعر الكبير عبد الكريم الناعم، تكريم لرجل اختبر الشعر بروحه، تمازج وتآلف القصيد في دمه، ومنه انداح فوق سهول القول، أشقراً، رقيقاً، جبلاً، ونهراً، وكم كانت معبرة وصادقة العبارة التي قالها رئيس الاتحاد في هذا التكريم: “تكريم الشاعر عبد الكريم الناعم لا يضيف لهذه القامة الشعرية أي شيء بقدر ما يضيف للاتحاد بكل تأكيد”.
صورة جماعية لذكرى هذه الأمسية الباذخة، الوارفة، الدانية القطوف، تفرق بعدها الصحب ولم تتفرق نسائم أذار التي مَسّكوها بهيل حروفهم، مرخين على المدى وعداً بأن دمشق هي سيدة الزمان، منتصرة، أبية، مهما تناهبتها النوّب.
تمّام علي بركات