حماية المنتج الوطني لا تعني الاحتكار لشفط المليارات.. من الجهات المسؤولة عن انعدام المنافسة ومنع تصنيع حاجتنا من السلع الغذائية؟
“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود
إذا كنا لا نبرر للتجار رفع الأسعار فإننا لا تبرر أيضا للصناعيين استغلال الظروف القاهرة التي تمر بها ملايين الأسر السورية للمتاجرة بالأمن الغذائي واحتكار السلع الأساسية والتحكم برفع أسعارها إلى نسب أقل ما يمكن وصفها بالـ “فاحشة”.
وما حصل مع مادة الزيت النباتي أقرب إلى الخيال، فخلال الأشهر الأخيرة قفز سعر الليتر إلى حدود الـ 12 ألف ليرة، وهو منتج محلي بامتياز. وقد تلاعب المصنعون بعرض هده المادة، فتارة يحجبونها عن الأسواق ويكدسونها في مستودعاتهم، وتارة يطرحونها بكميات أقل، ووصل جشعهم إلى حد رفع أسعارها يوما بعد يوم. وبما أن الطلب على المادة زاد بعد ارتفاع أسعار زيت الزيتون، فقد سال لعاب مصنعيها ووجدوها فرصة “قذرة” لاحتكارها بهدف الإثراء الفاحش والسريع من خلال شفط المليارات من الناس مقابل كم ضئيل من منتجاتهم. وقد ساعدهم على فعلتهم تقصير الجهات الحكومية المعنية بدعم الزراعة بتوفير المنافسة من خلال دعم القطاع العام المنتج للزيوت، سواء بتجديد خطوطه الإنتاجية أو بإقامة خطوط جديدة تلبي حاجة السوق من جهة، وبعدم تشجيع القطاع الخاص على إقامة معامل حديثة لكسر الاحتكار من جهة أخرى.
العودة إلى الضميمة ودعم “العام”
وإذا صح ما تقوله غرفة تجارة دمشق بأن أسعار الزيوت النباتية في الخارج أقل بنسبة 50% عن سعرها في سورية، فهذا مؤشر خطير على وجود قطب مخفية سمحت لمصنعي الزيوت المحليين باحتكار سوقها وأسعارها، وخاصة بعدما تأكدوا أن إنتاج القطاع العام لا يمكنه التدخل لكسر الاحتكار والأسعار. وللتذكير فإن أسعار الزيوت النباتية المستوردة كانت دائما، منذ تسعينات القرن الماضي، أقل بكثير من مثيلاتها المحلية، دون أن نعرف أسباب الفارق الكبير بين السعرين. وللتذكير أيضا، فإن المستثمرين بصناعة الزيوت النباتية كانوا يضغطون لمنع استيرادها “حماية للمنتج الوطني”، ونشبت بينهم وبين التجار المستوردين حرب شرسة انتهت بفرض وزارة الاقتصاد رسما على الزيوت المستوردة باسم “الضميمة” لصالح الزيت المحلي. ومع أن الضميمة كانت مرتفعة فإن الزيوت المستوردة بقيت أعلى بقليل من المنتج الوطني، ما أدى إلى نوع من المنافسة لجم المصنعيين المحليين من الاحتكار ورفع الأسعار.
ولكن.. ما أن منعت وزارة الاقتصاد استيراد الزيوت النباتية، وما أن بدأ إنتاج معامل القطاع العام ينخفض، حتى سارع أصحاب معامل زيوت القطاع الخاص لاحتكار المادة ورفع أسعارها إلى مستويات ليست متاحة إلا للمقتدرين ماليا؛ فلمَ سمحت الجهات المعنية – وتحديدا وزارات الزراعة والاقتصاد والصناعة والتجارة الداخلية – للصناعيين باحتكار الزيوت النباتية، ورفع أسعارها بأكثر من 100% من مثيلاتها في الأسواق الخارجية؟
كان على هذه الوزارات التحرك مبكرا لمنع احتكار الزيوت النباتية ورفع أسعارها من خلال التوسع بزراعة الذرة ودوار الشمس وتحديث خطوط معامل القطاع العام، وإضافة خطوط جديدة، وتأمين مستلزماتها، وتشجيع مستثمرين جدد، أما الإجراء الأسرع فهو السماح باستيراد الزيوت مع فرض “ضميمة” عليها تلزم أصحاب معامل الزيوت التي استمرأت الاحتكار على خفض أسعارهم بنسبة لا تقل عن 60%، أن لم يكن أكثر.. والإجراء الآخر استيراد احتياجات معامل القطاع العام من البذور لتعود إلى الإنتاج بطاقاتها القصوى.
الجشع أمّار بالاحتكار
لقد رأى رئيس لجنة التصدير في اتحاد غرف التجارة السورية، فايز قسومة، أنه “في حال كانت الصناعة المحلية تؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المستهلك فان هذه السياسة تعتبر مرفوضة!”. وهذا الرأي يستند إلى معلومة تقول أنه يمكن “استيراد الزيت بسعر أقل بنسبة 60% من السعر الحالي المتداول في الأسواق”. والهدف من هذا الرأي الوصول إلى استنتاج أو خلاصة قاطعة: “المنتج من الزيوت غير كاف والحل بالاستيراد لخفض الأسعار”!
وتؤكد غرفة تجارة دمشق أنه “في حال صدور قرار من الحكومة يسمح باستيراد الزيت فإن أسعار الزيوت ستنخفض قبل أن تصل الكميات المستوردة إلى سورية”. وما يعزز هذا الاستنتاج أن الزيت المستورد كان دائما أرخص من المصنع محليا، وهذا يعني أن هناك قطبا مخفية تجعل المنتج الوطني أعلى سعرا من المستورد، ومن يحيك هذه القطب ويعقدها هي جهات معارضة لتصنيع بدائل المستوردات تعمل في مواقع حكومية لها تأثير مباشر على صناعة القرار الاقتصادي.
والحرب بين المستوردين ومصنعي الزيت محليا قديمة تعود لتسعينيات القرن الماضي، مع إنشاء أول معمل خاص لإنتاج الزيت النباتي؛ وقد انحازت الحكومة – آنذاك – لحماية المنتج المحلي وفرضت ضميمة مالية على الزيت المستورد إلى حد وفر المنافسة ومنع الاحتكار وأبقى السعر في متناول المستهلك. ولكن الملفت أن أصحاب معامل الزيوت الخمسة ساعدوا التجار بالوصول إلى هذه الخلاصة: “ما من حل لخفض أسعار الزيوت النباتية إلا بالاستيراد”. والملفت أكثر أن الصناعيين لا يختلفون عن التجار، فكلهم أكدوا أن النفوس الجشعة أمّارة بالاحتكار، وأنه الطريق الأقصر للثراء الفاحش.. لقد وجد أصحاب معامل الزيوت أن “الرؤوس أينعت وحان قطافها”، فالحكومة أوقفت استيراد الزيوت، والمصانع الحكومية تراجع إنتاجها بسبب نقص المادة الأولية.. فلماذا لا يمارسون “فاحشة” الاحتكار ويرفعون الأسعار أسوة بالتجار؟
كان يمكن للصناعيين رفع الأسعار بما يتناسب مع دخل ملايين الأسر السورية، لكنهم آثروا خيار “الفحشاء” في الاحتكار والأسعار، ومنحوا الذريعة لمنافسيهم التجار للقول للحكومة: دعونا نستورد الزيوت لنرغم أصحاب المصانع الخاصة على تخفيض أسعار منتجاتهم.. أليس هذا ما يحصل حاليا؟
بماذا يختلف الصناعيون عن التجار؟
لقد أثبت الصناعيون بالدليل القاطع مقولة “الجشع أمّار بالاحتكار”، وما كنا نتهم به التجار من أنهم جشعون ولا يرضون إلا بالربح الفاحش، وبالتالي لا يترددون بتخزين مستورداتهم في المستودعات لحجبها عن الأسواق، أي للتحكم بانسيابها لرفع أسعارها، جاراهم فيه مصنعو الزيوت المحلية؛ فما أن سنحت لهم الفرصة حتى أسرعوا لرفع الأسعار إلى مستويات تفوق “الفاحشة” من جهة، ومنعها عن المستهلكين من جهة أخرى؛ فتحولوا سريعا – مثل التجار – إلى أعداء للمستهلك، لا هم لهم سوى امتصاص دمائه بلا ضمير، ولا إحساس بما ألحقوه بملايين الأسر السورية التي لم تعد تقوى على شراء الفلافل التي يعتمد تصنيعها النهائي عل زيوتهم المخبأة في مستودعاتهم!
نعم.. زالت الفوارق بين التاجر والصناعي، فـالإثنان محتكران يشفطان المليارات؛ وفي وقت وصل سعر ليتر الزيت إلى 12 ألف ليرة، كان أصحاب معامل الزيوت يكدسون إنتاجهم في المستودعات غير مكترثين بمعاناة الناس وأنينها، بل هم مثل الكثير من التجار بانتظار فرض زيادات جديدة في الأسعار. وما ضبطته الرقابة التموينية مؤخرا في معامل تصنيع الزيوت يؤكد النوايا الخبيثة بإحداث خلل في أسواق الزيوت والتلاعب بسعرها، لكنه ليس الحل الفعلي لأزمة تحتاج إلى إجراءات سريعة لخفض الأسعار!
لا استثناء واحد بين مصنعي الزيوت
وإذا كان الاحتكار ممنوعا ومكروها في الظروف العادية، فإنه جريمة لا تغتفر في الظروف التي تمر بها البلاد منذ عشر سنوات. والواقع يقول أن أصحاب مصانع الزيوت لم يستثمروا في الحرب الاقتصادية على سورية فقط، بل مارسوا أيضا الحصار على ملايين السوريين، سواء بحجب المادة حينا أو بمنعها عنهم من خلال رفع أسعارها إلى مستويات تفوق دخلهم.
ولم تفعل أجهزة الرقابة سوى الحد الأدنى مع أصحاب معامل الزيوت من خلال ضبطها لمستودعاتهم ومصادرة بضعة أطنان من المادة، وتسليمها إلى مؤسسة التجارة الداخلية لبيعها للمستهلكين بالسعر النظامي. والملفت أنه ما من صناعي واحد غرد خارج سرب الاحتكار حتى صاحب المعمل الذي استرد ثمن تكلفته خلال أقل من عام بالتواطؤ مع مسؤول حكومي سابق (كان مصيره لاحقا السجن) ألزم المزارعين بتسويق المادة الأولية لصاحب المعمل، وألزم مؤسسة “الاستهلاكية” الحكومية بشراء كامل إنتاج المعمل الذي تكدس في مخازينها وكان مصيره الإتلاف.
كان يمكن لأصحاب معامل الزيوت الإنتاج بالطاقة القصوى مستفيدين من منع استيراد المادة على ثلاث ورديات أو إثنتين، وبالتالي تخفيض التكلفة والبيع بأسعار موازية أن لم تكن أقل من مثيلاتها في الأسواق الخارجية، لكنهم لم يفعلوها لأنهم لا يجدون أنفسهم معنيين بمساعدة السوريين في مواجهة الحصار، بل لم يقفوا على الحياد، واختاروا أن يكونوا مع المحاصرين عونا على السوريين.
وعلى عكس الكثير من التجار والمستوردين، وبخاصة الصناعيين المشاركين في أشهر وأسابيع التسوق لكسر الأسعار، فإن ما من صاحب مصنع للزيوت اختار أن يكون الاستثناء حتى صاحب المعمل الذي بناه من حزينة الدولة!
ماذا يفيد رصد الأسواق؟
ما فعله أصحاب معامل الزيوت يكشف تقصير الوزارات المعنية بالمنتج الوطني وتوفير السلع للمواطنين. ولو قامت هذه الوزارات بمهامها لما أتاحت لأي جهة تنتج السلع الأساسية باحتكارها وبرفع أسعارها. وفي هذا السياق نتساءل: ما جدوى إحداث المرصد التأشيري للأسعار في وزارة التجارة الداخلية بالتنسيق مع الجهات المعنية؟
وزارة التجارة تقول أن هدف المرصد “الوصول إلى رسم سياسة عامة للأسعار ودراسة انعكاس سعر الصرف ومعالجة التشوهات السعرية والمحافظة على توازن الأسواق والتدخل الإيجابي عند الاختناقات للوصول إلى بيئة تضمن المنافسة العادلة وحماية المستهلك من الاعتداءات المتكررة من قبل ضعاف النفوس من التجار”؛ كما أن إحداث المرصد بنظر الوزارة هو “حالة إيجابية تعكس مؤشراتها قياسات صحيحة على حركة الأسعار هبوطاً وصعوداً، وتحديد نقاط القوة والضعف والخلل فيها ومعالجتها بالطرق التي تسمح بتدخل الجهات الحكومية المعنية وتوفير المستلزمات والسلع الضرورية وسد حالات النقص عن طريق جهات التدخل الإيجابي كـ “السورية للتجارة” والقطاع التعاوني الاستهلاكي، وغيره من الجهات التي تؤمن إيجابية التدخل”.
والملفت أن الوزارة تعترف بأن هذا التدخل لم يلبِّ الغرض المطلوب بالصورة الصحيحة لأسباب عديدة أهمها عدم استقرار الأسعار، وقبلها حجم الكميات المطروحة في السوق، وتذبذب أسعار الصرف، وتجار مراهقون دخلوا عالم التجارة بصورة غير صحيحة، ونهضوا على أكتاف الأزمة مستغلين سلبيات حرب كونية، وبما أن وزارة التجارة تعترف بأن حالة الطلب على المواد ضعيفة جداً بسبب ضعف القوة الشرائية للمستهلك، والارتفاع المستمر في الأسعار، فإن السؤال، بعد ارتفاع أسعار الزيت النباتي بنسب تجاوزت 100%: ماذا اقترحت على الحكومة لتأمين الزيت النباتي بأسعار تناسب دخلها؟
إلى متى سيستمر الاحتكار؟
لقد لفتنا تصريح لأمين سر اتحاد غرف التجارة السورية محمد الحلاق قال فيه أن “ليتر الزيت النباتي في كل دول العالم سعره ما يقارب 5 آلاف ليرة، إلا في سورية سعره بحدود 10 آلاف ليرة”. وبرأي الحلاق فإن “ارتفاع سعر الزيت النباتي اليوم سببه تفرد العاملين في قطاع الزيوت بالزيت النباتي”، وأكد أن تخفيض سعر الزيت النباتي وتخفيض بقية السلع “يتم عن طريق خلق المنافسة والتنافسية، وكلما تم تعزيز التنافسية بشكل أكبر يتم الحصول على أسعار ارخص”، وتساءل: لماذا سعر الزيت النباتي في كل دول الجوار ودول العالم أرخص من سورية؟”. وهو تساؤل مشروع لو أنه لا يأتي في سياق الحرب العلنية بين محتكري صناعة الزيوت ومنافسيهم المستوردين، وهي حرب قديمة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي. واستمرار الاحتكار سببه عدم ضع أي خطط لإنتاج حاجة سورية من الزيوت النباتية، بل وتصديرها أيضا، كما تفعل بعض الدول غير الزراعية.
كان على الحكومات السابقة أن تلحظ في خططها جعل محاصيل الذرة الصفراء وعباد الشمس استراتيجية لتأمين حاجة سورية من الأعلاف الضرورية لقطاع الدواجن ولمعامل الزيوت؛ كما كان عليها رصد الاعتمادات لتطوير معامل الزيوت العامة التي تعتمد على بذور القطن لتحسين الإنتاج، وإقامة خطوط إنتاج جديدة لتصنيع زيوت من عباد الشمس والذرة.
لكنها لم تفعل كل ذلك، وألزمت نفسها بخيارين فقط: احتكار المصنعين أو المستوردين؛ بل أن التجار لم يبيعوا الزيت المستورد على مدى العقود الماضية بأسعار رخيصة إلا لتكبيد الصناعيين الخسائر وإرغامهم على إغلاق معاملهم، أو للضغط على أي مستثمر جديد يمكن أن يفكر بمشروع للزيوت.
أزمة “العام” ساعدت بممارسة الاحتكار
ولطالما عانت شركة زيوت حماة من أزمة تكدس الإنتاج لارتفاع سعر تكلفته، وتدني مواصفاته، مقارنة بسعر الزيوت المطروحة في الأسواق والمرغوبة أكثر لدى المستهلكين.
لكن الحال تغير بعد التراجع الحاد في إنتاج القطن، والذي أدى بدوره إلى انخفاض حجم الإنتاج من جهة، والارتفاع الجنوني لأسعار الزيوت النباتية المنتجة في القطاع الخاص من جهة أخرى؛ بل أن وزارة الصناعة وجدتها فرصة لرفع أسعار زيوت القطن بذريعة ارتفاع كلف الإنتاج، واشتداد الطلب على منتجها، بعد قيام أصحاب المعامل الخاصة برفع سعرها!!
ولكن المشكلة أن إنتاج العام من الزيوت حاليا غير كاف بل أن معمل حماة توقف عدة أشهر لعدم توفر بذور القطن مما أفسح المجال لأصحاب معامل الخاص لرفع سعرهم مستغلين ليس توقف معمل حماة فقط بل ومنع الاستيراد أيضا أي مارسوا الاحتكار بامتياز وبشكل فاحش جدا!
بالمختصر المفيد
لوكان لدى أصحاب معامل الزيوت بقايا من الإنسانية والشعور بمعاناة ملايين السوريين لباعوا جزءا من إنتاجهم لـ “السورية للتجارة” بسعر التكلفة، لتقوم بدورها بتوزيعه عبر البطاقة الذكية، ولكن هذا آخر اهتماماتهم، بل ليس واردا في اهتماماتهم.
وإذا كان وزير الصناعة ممتعضا من الصناعيين الذين يستغلون تقلّب سعر الصرف بالقطع الأجنبي فالبديل عن الامتعاض تفعيل القطاع العام ودعمه بخطوط إنتاج تضاهي مثيلاتها في الخاص، والتنسيق مع وزارة الزراعة لتأمين المادة الأولية لإنتاج احتياجات الأسر السورية من السلع الغذائية بأسعار تناسب الدخل وتكسر الاحتكار.