تدمر.. واحة النخيل الصامدة على طريق الحرير
“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف
لبعض الوقت، سيطر ما يسمى تنظيم “داعش” الإرهابي على المنطقة المحيطة بتدمر، وتم تدمير بعض الآثار في الموقع، لكن سرعان ما استعادت الحكومة السورية المنطقة في آذار 2017، ولا يزال الموقع القديم – الذي نجا من عدة حروب وصراعات – كنزاً تاريخياً وثقافياً رئيسياً.
تدمر التاريخ
تم تسمية تدمر كموقع للتراث العالمي لليونسكو في عام 1980، وهي في الأصل تأسست بالقرب من واحة طبيعية خصبة، وقد تم إنشاؤها في وقت ما خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، وأصبحت مدينة رائدة في الشرق الأدنى ومركزاً تجارياً رئيسياً على طريق الحرير. جمعت الهندسة المعمارية لمدينة تدمر بين الأنماط اليونانية الرومانية مع تلك الموجودة في بلاد فارس والجزيرة العربية، والآثار المتبقية لها أهمية ثقافية وتاريخية كبيرة.
بدأت تدمر خلال العصر الحجري كمحمية صغيرة بالقرب من واحة في الصحراء على بعد أكثر من 100 كم شمال شرق دمشق. كانت المنطقة محاطة بالتربة الخصبة وأشجار النخيل، تغذيها سلسلة من الينابيع التي نشأت في وادي القبور (وتعني مجرى النهر). جعلت الينابيع والتربة الغنية من تدمر مكاناً مثالياً للزراعة والرعي.
ورتبط الاسم العربي تدمر بكلمة “نخيل التمر”، وقد المدينة بدأت كمحمية في بلاد ما بين النهرين، وسيطر الآراميون على عليها منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، قبل وصول العرب في الألفية الأولى قبل الميلاد. واندمج العرب مع سكان المدينة، ويقال إنهم تحدثوا باللهجة المحلية “التدمرية”.
في عام 64 قبل الميلاد، غزت الإمبراطورية الرومانية سورية، وبالتالي تدمر، لكن المدينة تركت مستقلة إلى حد كبير، وأصبحت شريكاً تجارياً مهماً مع روما. وفي العام 14 للميلاد، غزا الإمبراطور تيبريوس تدمر، وأصبحت تحت الحكم الروماني بالكامل؛ واستمر ذلك مدة قرنين تقريباً حتى بداية الحروب الفارسية.
فرض الفرس سيطرتهم على تدمر في القرن الثاني بعد الميلاد. وأثناء الصراع من أجل السيطرة، دمر الإمبراطور الروماني أوريليان الأول مدينة تدمر، في عام 273 للميلاد، على الرغم من إعادة بنائها في النهاية.
وخلال الأربعمائة عام التالية، سقطت تدمر تحت سيطرة الرومان مرة أخرى، والإمبراطورية البيزنطية التي جعلتها مدينة مسيحية. ومنذ أوائل الستينيات فصاعداً، حكم المدينة العديد من الخلفاء العرب. ظلت المدينة العظيمة مركزاً تجارياً مهماً على طريق الحرير، وربطت بين آسيا وأوروبا الحالية، حتى دمرها أمراء الحرب التيموريون في أوائل القرن الرابع عشر. كان التيموريون قبيلة من أصل تركي مغولي سيطرت على الكثير من المناطق في إيران والعراق وسورية.
أعيد بناء تدمر مرة أخرى، ولكن ليس بعظمتها السابقة؛ فقد أصبحت قرية أصغر، واحتُلت حتى عام 1932، عندما نقلت سورية – التي كانت آنذاك تحت الحكم الفرنسي – السكان إلى تدمر القريبة حتى يمكن تنفيذ الأعمال الأثرية في الموقع.
أطلال تدمر
بدأ الاستيطان المبكر لمدينة تدمر حول نبع أفقا على الجانب الشمالي من وادي القبور، حيث لا يزال هناك العديد من الآثار المهمة في الموقع. وتشمل هذه الآثار معبد بل، الذي بني لعبادة إله بلاد ما بين النهرين “بل”، والرواق العظيم، أو الطريق المستقيم للمدينة. ويحتوي الموقع أيضاً على بقايا معابد ومساكن ومسرح على الطراز الروماني.
وهناك أيضاً أدلة على باب العامود في المدينة القديمة، وهو مدخل للمجتمع المحاط بالأسوار، موجه نحو العاصمة دمشق، بالإضافة إلى ما يُعتقد أنه مبنى اجتماعات مجلس الشيوخ ومبنى المحكمة.
وتشمل الآثار البارزة التي تم تحديدها في الموقع أساسات حمامات دقلديانوس، وهي عبارة عن بقايا حمام سباحة يتميز مدخله بأعمدة كبيرة من الغرانيت المصري، والأغورا وهي قاعة اجتماعات صغيرة مزينة برسومات يونانية على الجدران، ولا يزال جزء منها قائماً؛ وهناك جزء من معبد بعل شمين الذي بني في القرن الثاني قبل الميلاد، وبقايا المعبد الجنائزي، والمسرح وهو منصة محاطة بأعمدة الغرانيت، وأخيراً هناك أجزاء من أسوار المدينة تعود إلى فترة دقلديانوس.
تدمر و “داعش”
خلال الحرب الإرهابية على سورية التي بدأت في العام 2011، سيطرت ما يسمى “داعش” على المنطقة المحيطة بتدمر وأعلنتها جزءاً من ما يسمى دولة الخلافة.
في عام 2015، دمر مسلحو “داعش” عدة تماثيل مهمة في تدمر، بما في ذلك تمثال “أسد اللات”، الذي كان يزين مدخل معبد بعل شمين، بالإضافة إلى تدمير بقايا المقابر المتعددة، كما هدم التنظيم التكفيري أيضاً أجزاء من المسرح بالإضافة إلى مسرح المدينة القديم.
وبعد أن حرر الجيش العربي السوري تدمر في آذار 2017، بدأت أعمال الترميم، وتم إصلاح آثار بارزة مثل أسد اللات.
ولم تكن كنوز تدمر الضحية الوحيدة لاحتلال “داعش”، فقد أعتقل المؤرخ السوري المعروف، خالد الأسعد، مدير آثار تدمر، وتم استجوابه من قبل مسلحي “داعش” لأكثر من شهر، لكنه رفض إخبارهم بمكان وجود كنوزها الرئيسية.. قطعوا رأسه وعلقوا جثته ومثلوا بها على عمود في الساحة الرئيسية بالمدينة.