مشروع “فينكس” حلب.. سورية في قلب طرق التجارة العالمية ومركز الجسر البري الأفريقي – الأوراسي والحزام الاقتصادي لطريقي الحرير: الجديد والبحري
“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: هيفاء علي
في العام 1184، وصف الشاعر والرحالة الأندلسي ابن جبير جمال مدينة حلب التي زارها كما يلي:
“عتيقة في الأزل، حديثة وإن لم تزل، قد طاولت الأيام والأعوام، وشيعت الخواص والعوام، هذه منازلها وديارها، فأين سكانها قديما وعمّارها؟ وتلك دار مملكتها وفناؤها فأين أمراؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ أجل، فني جميعهم، ولم يأن بعد فناؤها! فيا عجبا للبلاد تبقى وتذهب أملاكها، ويهلكون ولا يقضى هلاكها، تخطب بعدهم فلا يتعذر ملاكها، وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها. هذه حلب، كم أدخلت من ملوكها في خبر كان، ونسخت ظرف الزمان بالمكان، أنّث اسمها فتحلت بزينة الغوان، ودانت بالغدر فيمن خان، وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان، هيهات! هيهات! سيهرم شبابها، ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها، وتتطرق جنبات الحوادث إليها، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لا اله سواه، سبحانه جلت قدرته”.
منذ عام 2011، كانت الدولة السورية هدفاً للتدمير المنهجي من قبل إدارة أوباما والإمبراطورية البريطانية، من خلال أدواتهما وأزلامهما في المنطقة: السعودية والنظام التركي ومشيخة قطر، هؤلاء جميعهم مولوا وعززوا ودعموا الجماعات الإرهابية التكفيرية التي أغرقت سورية في الفوضى والهمجية في محاولة متعمدة لتدمير تماسكها الاجتماعي والثقافي لصالح صراعات عرقية ودينية لا نهاية لها.
ولكن سورية استطاعت بجيشها العقائدي ومؤسساتها المقاومة الدفاع عن نفسها، رغم أن الثمن كان غاليا بسبب العقوبات الاقتصادية الغربية الجائرة.
ستكون عملية إعادة إعمار سورية ضرورية لحل أزمة اللاجئين والمهجرين التي تؤثر على المنطقة بأكملها. المهجرون في الداخل يبحثون عن الأمان قبل كل شيء من خلال اللجوء إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. لكن في الوقت الحالي يستحيل عليهم العودة لأن معظم منازل البلدات والقرى دمرت كلياً أو جزئياً. إذ تعتبر البنية التحتية الأساسية (المياه والطاقة والنقل وما إلى ذلك) أهدافاً للهجمات، وفي مناطق كثيرة توقفت الأنشطة الزراعية والصناعية منذ عام 2012، لكنها عادت ونشطت بعدما طهر الجيش العربي السوري معظم المناطق من رجس الإرهاب.
لقد مرت حلب، قبل أيام الرحالة ابن جبير وبعدها، بأوقات عديدة من الانتصارات العظيمة وأخرى من الانحطاط. لقد نجت المدينة من الاعتداءات والاضطرابات الاجتماعية، وولدت من جديد مثل طائر الفينيق. واليوم، حافظ الشعب السوري والحكومة السورية على هذه الروح لتبقى حية في مواجهة أسوأ أزمة في تاريخها.
في تشرين الثاني 2015، قام وفد من معهد شيلر واللجنة السورية السويدية للديمقراطية بزيارة دمشق لتقديم مساعدات إنسانية متواضعة، ولكن قبل كل شيء لتقديم “مشروع فينيكس” للدولة السورية لإحياء البلد من تحت الأنقاض.
ويبدو أن تدخل معهد شيلر كان في الوقت المناسب، فقد دفع ظهور مجموعة دول البريكس على المسرح العالمي، عام 2014، بهدف تغيير نظام عالمي متحلل ومدمر، سورية وشعبها إلى التشبث به. أدى التدخل الروسي المباشر، منذ أيلول 2015، لدعم ومؤازرة الجيش العربي السوري إلى تغيير الهندسة الإستراتيجية، وإحباط المخطط الغربي الرامي إلى تقسيم سورية وإخضاعها.
وبصرف النظر عن التدخل الروسي على المستوى العسكري، فإنه على المستوى الاقتصادي أيضاً تغير الوضع لصالح السلام والتنمية، وذلك بفضل زيارة الرئيس شي جين بينغ، في كانون الثاني 2016، إلى مصر والسعودية وإيران، للترويج لطريق الحرير الجديد هناك.
أعد معهد شيلر ومجلة الاستخبارات التنفيذية (EIR) أرضية لهذا النقاش من خلال نشر تقرير خاص، في تشرين الثاني 2014، بعنوان “طريق الحرير الجديد يغدو جسر الأرض العالمي”، نُشر باللغة الصينية في أيلول 2015. ويقدم هذا التقرير رؤية شاملة للغاية لمشاريع التنمية المشتركة الكبرى القادرة على أن تكون بمثابة أساس للسلام العالمي. إن امتداد طريق الحرير الجديد هو مفتاح تنمية المنطقة. تتلاءم إعادة إعمار سورية بشكل طبيعي مع هذا المنظور الذي ستساهم فيه.
مشروع فينيكس
يتكون مشروع فينيكس من جزأين: كيفية تمويل إعادة الإعمار، والمكاسب التي يمكن تحقيقها من اندماجه في مشروع طريق الحرير الجديد.
تمويل إعادة إعمار سورية:
هناك مصدران سيساهمان في توليد ائتمان إنتاجي في خدمة إعادة إعمار سورية: بنك وطني لإعادة الإعمار يعمل على المبادئ التي حددها وزير الخزانة الأمريكي، ألكسندر هاملتون، وائتمانات واستثمارات مباشرة من مؤسسات مثل بنك التنمية الجديد لدول البريكس أو البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية “BAII”.
إنه برنامج طارئ للإسكان وتسهيل عودة ملايين اللاجئين الذين دمرت منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم بسبب الحرب، وتعمل فيه كل القوى العاملة والأدوات والمواد الممكنة. وتحتاج مراكز الإنتاج الصناعي والزراعي إلى إعادة بناء، وخاصة قطاعي الأدوية والبتروكيماويات المطلوبين بشكل عاجل. وسيتم نشر كتائب عمل مؤقتة يشرف عليها مهندسون عسكريون لتعبئة الشباب. وسيتم تمويلها من قبل البنك الوطني لإعادة الإعمار. وبالإضافة إلى التعامل مع الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، ستهتم الكتائب بتدريب القوى العاملة على وظائف أكثر مهارة، حيث تمتلك سورية تقنيات متقدمة في مجال الطيران والإلكترونيات وبناء الآلات، وكذلك في مجال المواد الكيميائية، وهي مجالات ذات إمكانات نمو كبيرة.
في السياق ذاته، يحتاج نظام النقل السوري إلى التحديث، لذلك سيكون من الأولويات بناء خطوط السكك الحديدية عالية السرعة والطرق السريعة، كجزء من المحاور الرئيسية العابرة للقارات التي تربط البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي والبحر الأحمر وبحر قزوين والبحر الأسود. وهذا هو الهدف من “استراتيجية البحار الخمسة” التي دافع عنها الرئيس بشار الأسد عام 2009 قبل اندلاع الصراع.
لا يقتصر نهج “طريق الحرير الجديد” فقط على مسالة بناء وسائل النقل، بل وينص على إنشاء “ممرين إنمائيين” دوليين، أحدهما بين الشرق والغرب، والآخر بين الشمال والجنوب، ما يسمح على المدى الطويل بإعادة تنشيط مفترق الطرق السوري القديم للتجارة بالنمو والحيوية. وبصرف النظر عن السكك الحديدية، ستشمل ممرات التنمية هذه خطوط الأنابيب والقنوات المائية والمناطق الصناعية والزراعة المتقدمة والمدن الجديدة. وستعمل تحلية مياه البحر، وتطوير المياه الجوفية، وتأمين الغلاف الجوي، بالتعاون مع الدول المجاورة، على تخضير الصحراء، والحد من العواصف الرملية وزيادة المساحة الزراعية من أجل التنمية المثلى للموارد.
طريق الحرير الجديد
تقع سورية على مفترق طرق بين ثلاث قارات: آسيا وأوروبا وأفريقيا؛ ومن خلال موقعها الجغرافي فهي في قلب طرق التجارة التي تربط بين العديد من المحيطات والبحار الداخلية؛ وهكذا فإن سورية هي مركز الجسر البري الأفريقي – الأوراسي، والحزام الاقتصادي لطريق الحرير الجديد وطريق الحرير البحري.
يبدأ أحد الشرايين الرئيسية لطريق الحرير الجديد في الصين، ويعبر آسيا الوسطى وإيران قبل أن يصل إلى البر الرئيسي لأوروبا. ذراع إيراني يمتد باتجاه العراق ويصل إلى سورية ما بعد نهري دجلة والفرات. ويمتد هذا المحور على طول الأنهار باتجاه الخليج العربي، ويمكن أيضاً ربط هذا المحور بطريق الحرير البحري عبر ميناء البصرة في الجنوب، ودير الزور والرقة وحلب في الشمال الغربي. يوجد حالياً خط سكة حديد يمتد على طول نهر الفرات في العراق وسورية، وخط سكة حديد يربط حلب بدير الزور على نهر الفرات، على بعد 150 كيلومتراً من البوكمال على الحدود العراقية. إنها إحدى الروابط الرئيسية التي تربط سورية بآسيا الوسطى والصين عبر بغداد وطهران. أما طريق الحرير القديم على طول نهر الفرات، من البصرة إلى الخليج العربي، فسوف يمتد إلى سورية وخارجها، مروراً بتركيا إلى أوروبا. وهذا الشريان سينشط المناطق الصناعية في الرقة وحلب، كما سيمثل خط سكة الحديد على طول نهر الفرات، ويتم تنفيذه بالتعاون مع العراق، خطوة كبيرة إلى الأمام من حيث التكامل الإقليمي، وكذلك ممراً تنموياً نحو الخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوب أوروبا. سيمنح خط السكك الحديدية مع طهران لسورية إمكانية الوصول إلى منطقة بحر قزوين كخطوة أخرى في استراتيجية البحار الخمسة، والكثير من قنوات الاتصال التي ستستفيد منها سورية. وكل هذه الشرايين التجارية، مثلها مثل طريق الحرير القديم، ستؤدي إلى حلب في سورية، ومن هناك سيروي الممر منطقة إدلب حتى الوصول إلى ميناء اللاذقية على البحر المتوسط. وهناك فرع آخر لإعادة إحياء طريق الحرير القديم، وهو إنشاء خط سكة حديد بطول 200 كيلومتر يربط دير الزور مع تدمر، المدينة الأسطورية على طريق الحرير، حيث كانت تقام كل عام مهرجانات على طول طريق الحرير قبل سنوات الحرب.. وستسمح هذه الترابطات في النهاية بالرحلات من طهران وبغداد حتى بيروت ،مرورا بهذه المدن السورية وبدمشق.
وهناك ممر بري أكثر مباشرة سيربط سورية بمصر المزدهرة، من خلال إعادة بناء سكة حديد الحجاز التي تربط دمشق بالمدينة المنورة، والعابرة الأردن، وسترتبط بخط سكة حديد من القاهرة إلى خليج العقبة بعمان في الأردن.
مخطط الواحة
تم تصور “خطة الواحة للشرق الأوسط”، التي روج لها ليندون لاروش في السبعينيات، ممر تنموي بين الشمال والجنوب يمر من تركيا إلى مصر في إفريقيا، عبر دمشق، وفلسطين. وهذا المشروع يهدف إلى حل مشترك لمشكلة الموارد المائية للمنطقة بأكملها.
- سيتم ربط منطقة البحر الأسود بسورية عبر اسطنبول وميناء شمشون التركي على البحر الأسود. واسطنبول هي أيضاً وجهة خط سكة حديد “الفايكنغ” الجديد الذي ينطلق من ميناء كلايبيدا الليتواني على بحر البلطيق، وهو طريق تجاري من بلدان الشمال، إلى سورية، سيجعل روسيا والقوقاز أقرب إلى جنوب غرب آسيا.
- منذ افتتاح قناة السويس الجديدة في أب 2015، تمكنت السفن العملاقة من جلب البضائع من الصين والهند عبر طريق الحرير البحري إلى البحر الأبيض المتوسط. تهتم الصين ببناء قناة، من خلال تطوير نهري فاردار (أكسيوس) ومورافا، لربط سالونيك بالدانوب ببلغراد. يعد محور الراين – الدانوب بالفعل أكبر ممر نقل في أوروبا.
قبل الحرب، لم تكن سورية دولة غنية. ومع ذلك، لم يكن مستوى المعيشة سيئاً هناك. كان التعليم والصحة مجانيين هناك. كانت مدينة حلب مركزاً رئيسياً للثقافة والعلوم خلال عصر النهضة الإسلامية من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر، وكانت مركزاً رئيسياً للتجارة والإنتاج الصناعي. قبل الحرب، كانت حلب تشكل 30٪ إلى 40٪ من الصادرات السورية الصناعية وغير النفطية. تقع مدينة الشيخ النجار الصناعية على بعد 10 كيلومترات شمال حلب، وتتميز بمرافقها الحديثة، وقد بدأ بناؤها عام 2000. وتعرضت هذه المدينة، إلى جانب مدينة حلب، لدمار كبير وسرقة للمعامل التي تم نقلها إلى تركيا من قبل النظام التركي، منذ بدء المعارك والاشتباكات بين الإرهابيين والجيش العربي السوري.
خلاصة
إن ما يجعل حلب، المدينة والمنطقة، مكاناً خاصاً ورائعاً، هو التنوع والأوجه المتعددة لفسيفساء تاريخها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. هذا النسيج المجتمعي هو الذي يسعى مرتكبو الجريمة ضد سورية إلى تدميره. يزعمون أن الأديان والأعراق والقبائل المختلفة التي تتكون منها الأمم لا يمكن أن تتعايش وتتطور، وأن حوار الثقافات، مثل الحوار بين الإسلام والمسيحية، أو بين الصين والغرب، أمر مستحيل. ومع ذلك، فإن وجود التنوع في بلدان مثل العراق وسورية هو دليل حي على مغالطاتهم ومزاعمهم. وهكذا حاولوا يائسين تفكيك وتقسيم سورية بطريقة فوضوية من خلال استخدام السلاح و إنشاء “جبهة النصرة” و”تنظيم داعش” الإرهابيين..
جانب آخر رائع من حلب هو قدرتها المذهلة على الصمود في مواجهة الحروب والكوارث الطبيعية، وتلك التي هي من صنع الإنسان. وبالتالي، يجب إعادة حلب إلى أبعادها الحقيقية وشخصيتها كمركز للثقافة والحضارة العالمية. لقد وضعت منظمة اليونسكو مدينة حلب القديمة على قائمة التراث العالمي: “تشهد مدينة حلب القديمة على ثراء وتنوع سكانها المتعاقبين. تركت فترات عديدة من التاريخ بصماتها على النسيج المعماري للمدينة. تم دمج بقايا البنى والعناصر الحثية والهلنستية والرومانية والبيزنطية والأيوبية في القلعة الضخمة المتبقية. مزيج من المباني المختلفة – بما في ذلك المسجد الكبير الذي تأسس في عهد الأمويين، وأعيد بناؤه في القرن الثاني عشر، والمدرسة الحلوية التي تعود إلى القرن الثاني عشر، والتي تضم بقايا الكاتدرائية المسيحية في حلب، بالإضافة إلى المساجد والمدارس والأسواق والخانات الأخرى – جميعها تحمل طابعاً استثنائياً يشهد على الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لما كانت ذات يوم واحدة من أغنى مدن البشرية”.
ليست حلب وحدها، بل سورية بشعبها وجيشها وقيادتها، وثقافتها ومصنوعاتها، تمثل شهادة حية وفريدة على التعايش والاستمرارية بين الحضارات الإنسانية المختلفة. لذلك يتحتم على العالم أن يدافع عنها ويحافظ عليها، وأن يجعلها، ما إن تتم استعادة السلام، عاصمة عالمية لحوار الحضارات!