ثقافةصحيفة البعث

على بعد حلم

ندى محمود القيم

كان الضوء يتسلل إلى الغرفة بحذر، لأن صاحبها قد استغرق في أحلامه منذ دقائق فقط. وعلى ما يبدو الأحلام تأتي في الليل رومانسية أكثر، لأن أحلام النهار غالباً ما تكون على هيئة كوابيس ومشاجرات وأحداث متداخلة كفيلم هندي.

إن ما يميز الأحلام عن الواقع هي أنها مرتبطة باللاوعي، لكن في هذه الأيام أصبحت مرتبطة بالوعي والعيون المفتوحة أو المبحلقة بكل شيء. لقد أصبحت أحلامنا تركض أمامنا دون أن نستطيع الإمساك بها. البارحة مثلاً كان حلم يدور على سيخ من الجمر، والثاني على واجهة مثيرة، وآخر في علبة حليب، أليست هذه أحلاماً أيضاً؟ أحلام الواقع  الجديد الذي يجرنا إلى كل حلم مشتهى خائري القوى.

بعد أن اخترق الضوء الغرفة بكاملها، استيقظ مرغماً وهو يتمتم بعبارات مبهمة. كل صباح يلعن ذاك اليوم الذي ولد فيه وتدحرج إلى الحياة بسببه ككرة الثلج التي كلما تقدمت تكبر وتكبر. ها هو الآن بحجم جبل من الثقل والهموم والتعب وما من أحد يأخذ بيده أو يوقفه عن التدحرج.

لبس ثيابه وانطلق مسرعاً دون أن يفكر بتمشيط شعره أو غسل وجهه فالمياه مقطوعة منذ البارحة، ثم إن الرأس الذي يحمله بما فيه قد أكله الصدأ فمن سيكترث لأمره أو تسريحة شعره.. الشاب الأربعيني الملتحي.

عند موقف الباص، مال بجسمه على عمود ما، عمود لا يحمل لافتة ولا لمبة إنارة. أحس أنه كهذا العامود تماماً، مبهم التفاصيل، لا يعرّف بأل التعريف. عامود ما، إنسان ما. إنه العاقل الجماد بعينه.  العاقل الذي يملك عقلاً للتفكير والعمل والإبداع، العاقل البشري الذي يمشي على قدمين اثنتين ويتحدث لغتين ويحمل شهادة جامعية في الآداب، وهذا كله يجب أن يكسبه صفة العاقلين، لكنه مجمد كالخشب أو الحديد أو أي مادة أخرى لا روح فيها بفعل ما يحدث حوله.

جاء الباص أخيراً، متثاقلاً من اكتظاظ الناس فيه، لكنه هو مضطر للركوب وإلا لما انتظر من الأساس.

بالتأكيد ما من مقعد له، كان يريد مساحة قبضة يد كي يعلق فيها يده، إلا أن الأيادي الملعقة كانت أكثر من الشيب في رأسه. وقف على طرف الدرج وأمسك بقميص زميل له، راكب يشاركه الحال والأحوال.

بعد أن قطع من الزمن حوالي النصف ساعة وصل، ونزل من الباص وهو ينفض بقايا التعب وهموم الركاب من على قميصه، وبينما كان يقطع الشارع إلى الجهة الأخرى كاد أن يدهسه حلم مسرع توقف للتو بدعسة قوية على الفرامل. إنه الحلم الذي أمضى من عمره سنوات وهو يسامره الليل كله ويحكي له ويكتب فيه الشعر والأبيات وكل ما تعلمه من كتب المراهقة والشباب التي تضج بالعنفوان والثورة. إنه الحلم الذي تخلى عن بقية أحلامه كلها كرمى لطرف عينه، ومزق جواز سفره كي يبقى بقربه ويبني معه واقعاً بسيطاً في بقعة من الأرض لا تعترف بذوي الدخل المحدود.

وقع على الأرض ودارت الدنيا من حوله، وتراءى له أن أبيات جرير قد خرجت من القصيدة لترقص فوق جرحه كالعصافير. “إن العيون التي في طرفها حور/ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا”.

إنه القتيل شخصياً، الذي رش الملح فوق جرحه وركض مسرعاً كي لا يتعرف عليه أو يكشف هويته أحد، فأين الثرى من الثريا، وأين الحلم من واقع متهرئ يتنقل على قدميه ويحمل ورقة نعيه بانتظار أن تعلق على حائط ما وبلا أدنى تعريف، ورقة مكتوب عليها إنسان ما، دهسه حلمه عن عمر لم يناهز الحياة.