النمو السكاني.. والتحديات الاقتصادية والاجتماعية
مما لا شك فيه بأن تزايد أعداد السكان يُعيق سير عملية التنمية بمختلف صورها، مهما حسُنت النيات وتوافرت الإرادات والإدارات المناسبة، كما أن عملية التنمية في العصر الراهن تستلزم تنظيماً دقيقاً للمجتمع. ومن أهم عناصر هذا التنظيم الواقعي هو تحقيق نمو سكاني متناغم مع القدرات الحقيقية في عملية النمو، ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية برزت على السطح معضلة البطالة والتي تكاد تخنق شتى أشكال المجتمعات سواء في الوقت الراهن أو حتى في المستقبل القريب، ولا تقتصر عموم التحديات على مشكلة البطالة فقط، فهناك أيضاً قصور إمكانات في عدد من مناحي الحياة أيضاً، ومن الواضح للمُتابع بأن جملة هذه التحديات الاقتصادية وحتى الاجتماعية لا يمكن تجاوزها دون معالجة التزايد السكاني غير المنضبط كون هناك نسبة من السكان الذين لم يتلقوا تعليماً مناسباً أبداً ولم يتعرضوا لحملات توعية مناسبة تُوضح لهم أهمية تحديد عدد الأبناء بما يتناسب مع إمكاناتهم المالية وقدراتهم على تعليم الأبناء وتحسين فرص المستقبل أمامهم، إضافة إلى كون هذه النسبة لا تعي بمسؤولية عمق النتائج الوخيمة لعدم ضبط الإنجاب.
من المعلوم بأن ثمة اعتبارات تراثية و قِيمِية تُحبذ زيادة الأولاد وتُسلم بأن رزقهم يأتي معهم ولذلك قارع أصحاب هذه القناعات والمعتقدات كل محاولات وإجراءات وإرشادات تحديد النسل، إلا أن التطورات العالمية وازدياد اهتمام منظمات الأمم المتحدة دفعت العديدين إلى تبني مفاهيم عصرية تُناغم وتُواكب العصر الحالي والظروف الراهنة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مقياس القوة ومفهوم المنعة ليس في أعداد الأولاد بل في كفاءة الأجيال الجديدة وقدرتها في تحصيل العلم والمعرفة ومواكبة الحياة العصرية والتقنيات الحديثة والولوج إلى عالم الكومبيوتر والمعلوماتية، ولا يخفى على أحد بأن ظاهرة الزواج المبكر في بعض الأماكن يُساهم في تزايد أعداد البشر، حيث تحرص بعض العائلات على الضغط بزواج الأبناء وهم في أعمار لاتؤهل بحق لإدارة حياة زوجية معقولة واجتماعية ناجحة، ويندفع هؤلاء الأزواج الصغار إلى إنجاب أطفال وهم في أعمار لا تُمكنهم من تربية الأبناء بطريقة مفيدة لمجتمعاتهم وأوطانهم ويُلاحظ بأن هذه الظاهرة آخذة في الانحسار والتراجع في أغلب المجتمعات المدنية عموماً، وعلى المقلب الآخر فإن تراجع معظم مستويات المعيشة وتقلص فرص العمل وارتفاع قيم المُهور والشره الاستهلاكي الذي يضغط على الراغبين في الزواج ويُحطم إمكاناتهم المادية دفعت بشريحة كبيرة من الشباب إلى العزوف عن الزواج.
هناك ربط واضح وحقيقي بين النمو السكاني وقدرات البيئة الطبيعية على التحمل وتوفير إمكانات الحياة، ويربط البعض بين التزايد السكاني المُلفت وبين التدهور في البيئة بعدد كبير من الأماكن والأصقاع، ومما لا شك فيه بأن مختلف السيناريوهات غير وردية بتاتاً، لأن الزيادة السكانية الكبيرة عقدت مسألة الهجرة من الريف إلى مراكز المُدن وزادت من كثافة السكن في المُدن وما حولها، ولا يخفى بأن ذلك رفع تكاليف المعيشة والتعليم والطبابة وغيرها وزاد من أعداد العاطلين عن العمل وفجر بعنف الأوضاع الاجتماعية والسياسية وكذلك جوانبها المعيشية، ولا يمكن أبداً للمرء أن يكون مُتفائلاً حيال هذه الأوضاع السائدة ما دامت بعض العقليات ترفض جميع تلك المقترحات العملية الهادفة للحد من الزيادة السكانية بدعوى عدم ملاءمتها للقيم والأخلاق أو عدم انسجامها مع التقاليد والتراث، وقد أبرزت الحوارات والندوات التي دارت حول فلك هذا الشأن بأن مسألة السكان ستظل تُراوح في مكانها وإن تحسنت فإنها ستتحسن ببطء لا يتوافق مع الواقع الاقتصادي والأزمات الاجتماعية وحتى السياسية نتيجة لعدم تعامل جزء كبير من العقول المُغلقة مع حقائق العصر بأسلوب مرن وديناميكي.
وبناءً على هذه الحقائق ليس من الغريب أن تعجز الجهات المسؤولة عن مواجهة التزاماتها الوطنية الواجبة والمفروضة في ظل عجز الموارد الطبيعية والاقتصادية، وبالأخص التجارية منها والصناعية، عن مواجهة شجون المعضلة السكانية، مع ضرورة الانتباه إلى ولادة مشكلة حقيقية تتجلى في أن نضوب القوى البشرية القادرة على العمل في قطاع الزراعة سيؤدي حتماً إلى تعطل فرص الإنتاج الزراعي بكل مناحيه وشتى أشكاله وستزداد الأفواه الجائعة والباحثة عن الطعام ولقمة العيش.
د. بشار عيسى