دراساتصحيفة البعث

تيار من النخب الأمريكية يتمسك بالوجود الأمريكي في العراق

محمد نادر العمري

مضى أكثر من ثلاثة أشهر على تولي الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة الديمقراطي “جو بايدن” مقاليد إدارة الحكم في البيت الأبيض، ولم يظهر في الأفق أو تتبلور مواقف وتوجهات واقعية ملموسة على نيّة واشنطن إنهاء وجودها العسكري في العراق، بل ربما كانت المؤشرات في الاتجاه الآخر أكثر وضوحاً وأكبر زخماً، ولاسيما مع البحث عن ذرائع متعدّدة وأدوات وأساليب أخرى لإدامة ذلك الوجود وتكريسه لأمد غير منظور، بالتزامن مع تأجيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان لمدة عام كامل وفق ما أعلنته هذه الإدارة.

وما لم تكن الإحاطة بحقيقة التوجهات والنيات الأميركية ممكنة من خلال تصريحات المسؤولين الرسميين، فمن خلال التوقف عند ما تطرحه بعض مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية، والتي تعدّ من أبرز الفاعلين في صنع القرارات ومصادر تسويق السياسات في الولايات المتحدة، يمكن معرفة طبيعة التفكير الأميركي والأهداف الموضوعة والخيارات المتاحة والسيناريوهات الأكثر والأقرب تداولاً، بغضّ النظر عن الهوية الحزبية لمن يمتلك أدوات السلطة ومفاتيح القرار.

وضمن هذا المسار وتحت عنوان “الوجود الأميركي في العراق ما يزال يمثل مصلحة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة”، كتب المساعد السابق في وزارة الخارجية الأميركية “ديفيد شينكر”، مطلع شهر آذار الماضي، مقالاً مطولاً في موقع “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” تطرق فيه إلى مجمل تجربته في العراق حين كان يشغل منصب نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط في عهد الرئيس دونالد ترامب، وقدّم رؤيته للإدارة الحالية تخلّلتها نصائح، كان في أولوياتها أن يكرس الوجود والنفوذ الأمريكي في العراق.

صحيح أن شينكر لم يعد يشغل موقعاً رسمياً في إدارة بايدن الجديدة، غير أنه ما زال يعدّ عنصراً مؤثراً وفاعلاً في السياسة الخارجية الأمريكية، وما يقوله ويتحدث به يحظى باهتمام الكثير من الأوساط والمحافل السياسية وغير السياسية. وقد جاء به ترامب من معهد واشنطن، حيث كان مديره لعدة أعوام، إلى فضاء الدبلوماسية، ليتولّى ملف دبلوماسية واشنطن في منطقة الشرق الأوسط الحافلة بالكثير من المشكلات والأزمات والتقاطعات والتناقضات التي تعدّ بؤرة للمصالح الإستراتيجية الأميركية على النطاق العالمي، وكان ذلك التعيين محسوباً بدقة، إذ إن شينكر معروف بصلاته الوثيقة والقوية بأوساط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وبدعمه الكبير للكيان الصهيوني ومعاداته لإيران وأصدقائها وحلفائها، وأكثر من ذلك كله، يعتبر الرجل من دعاة استخدام القوة العسكرية المسلحة لضمان مصالح بلاده وفرض هيمنتها ونفوذها على أرض الواقع.

وفي الوقت الذي يستعرض شينكر رؤيته ومخرجات تحركاته ولقاءاته مع كبار المسؤولين العراقيين، فإنه يخرج بنتيجة مفادها: “على الرغم من هذه التحديات، يبقى الوجود الأميركي في العراق مصلحة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة، فالقوات الأميركية، ومعها قوات من تحالف كبير من الدول، موجودة في العراق بناءً على دعوة الحكومة العراقية، بهدف هزيمة تنظيم “داعش” ومنع عودة ظهوره، وفي ظل غياب القدرات الأميركية، ولاسيما قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع أو الطائرات المسيرة، ستبوء المهمّة بالفشل -حسب زعمه- وفي الوقت نفسه، إن الانسحاب الأميركي سيقلّل قدرات الجيش العراقي، ويقوّض الثقة بالدولة، ويفاقم الأزمة الاقتصادية الحادة، ولعلّ الأهم من ذلك كله هو أن انسحاب الأميركيين سيعني تسليم بغداد تماماً لطهران، وسيعزّز طموحات الهيمنة الإيرانية في المنطقة أكثر”، حسب تعبيره.

إن التحديات التي تطرّق إليها الدبلوماسي الأميركي في مقاله تتمثّل في الخطر الذي تشكله الفصائل المقاومة المدعومة من إيران -بحسب قوله- على الوجود الأميركي والمصالح الأميركية، والتي يرى أنها تهيمن على مقاليد الأمور في العراق، بينما لم يتطرق إلى مجمل التوجهات الشعبية والسياسية العراقية لإخراج القوات الأميركية من البلاد وإنهاء الوجود الأجنبي، ولم يأتِ على ذكر التعاطي الأميركي السلبي مع ملفات أمنية وسياسية واقتصادية عراقية حساسة ومهمّة طيلة الأعوام الثمانية عشر الماضية، وتجنّب الخوض في الكثير من الانتهاكات والتجاوزات التي ارتكبتها القوات الأميركية والشركات الأمنية الأجنبية -وتحديداً الأميركية، وأبرزها “بلاك ووتر”- ضد المواطنين العراقيين، ناهيك عما حصل في سجن أبو غريب وسجون أخرى من فضائح بحق مئات السجناء، إن لم يكن الآلاف، والأهم تغاضى عن التوظيف الأمريكي لتنظيم “داعش” واستخدام عناصره بيادق للقتال في جبهات تريد واشنطن إشعالها، ضمن الصندوق المفتوح مابين العراق وسورية.

وضمن رؤية شينكر القائمة على استمرار الوجود الأميركي في العراق، فإنه يشدّد على حلّ الحشد الشعبي، متجاهلاً أو متناسياً أنه لولا الحشد الشعبي الذي تأسّس في صيف العام 2014، لكان تنظيم “داعش” قد اجتاح العراق من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه حتى غربه، ووصل إلى عواصم دول أخرى.

وليس بعيداً من ذلك، يعتقد شينكر أن السياسة الحازمة لإدارة ترامب أفلحت في تقليل حجم التهديدات للوجود الأميركي في العراق، لذلك يدعو إدارة بايدن إلى الاستمرار بالنهج نفسه، ويرى أن توجيه ضربات بين الحين والآخر إلى ما سمّاه “بالفصائل المسلحة أو الميليشيات” غير كافٍ لردعها عن ارتكاب الأعمال العدائية ضد العسكريين الأميركيين والبعثات الدبلوماسية الأميركية في بغداد ومدن عراقية أخرى، وهو بطريقة أو بأخرى يطالب بتشديد الضغوط على إيران، وذلك لا يتمّ، وفقاً لوجهة نظره، إلا من خلال المحافظة على الوجود الأميركي في العراق والمنطقة، وتعزيزه بما يصون الأمن القومي ومصالح بلاده وحلفائها وأصدقائها، ولاسيما الكيان الإسرائيلي.

يبدو أن ما طرحه نائب وزير الخارجية الأميركي السابق في مقاله، يتعدّى كونه وجهات نظر شخصية إلى كونه خلاصة توجّه عام لتيار سياسي واسع يتشكّل من جمهوريين وديمقراطيين وجماعات من اللوبي الصهيوني، وبمباركة ودفع وتشجيع من عواصم إقليمية، كالرياض والمنامة و”تل أبيب”، تتفق جميعها وتلتقي على نقطة واحدة، هي أن أي إضعاف للوجود الأميركي في العراق والمنطقة، بما فيها سورية، سوف يفضي إلى اختلال المعادلات لمصلحة محور المقاومة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن هناك حقيقة ربما لم يلتفت إليها هؤلاء، وهي أن الوجود الأميركي بكل ثقله وحجمه العسكري والسياسي والأمني، أخفق على مدى عقدين من الزمن أو أكثر في حسم وتوجيه أي ملف من الملفات الإقليمية بما يخدم مصالح واشنطن والعواصم التابعة لها ولم يحقق الأمن للكيان الإسرائيلي، ما يعني أن المراجعات الموضوعية الجادة وإعادة النظر في المواقف والتوجهات أفضل بكثير من تكرار الأخطاء والإصرار على مواصلة السير في طريق الفشل والإخفاق.