من صفر محطة إلى مائة بالمائة منها.. مؤسسة مياه دير الزور تغسل رِجس الإرهاب وتتغلب على الحرب
دير الزور ــ وائل حميدي
حين تعطش مدينة غافية على نهرٍ عظيم يخترقها بفرعيه الصغير والكبير، وحين يعجز أبناء هذا النهر عن أن يصلوا إليه لينهلوا منه ما يروي عطشهم، فنحن – هنا – لسنا أمام إرهاب همجي، وإنما إرهاب ممنهج حاقد يُجيد لعبته القذرة، وخبير بسياسة الحصار تفضحه أعماله التي تدل على حقده على البشرية وعلى الوطن والمواطن.
تنظيم داعش الإرهابي، ومن سبقه من مرتزقة وتكفيريين، ومن يمولونهم، قاموا بتدمير “مائة بالمائة” من منظومة المياء في دير الزور.. أتو عليها نهبا وسرقة، حرقا وتدميرا، وطوّقوا مدينة دير الزور أعواما كاملة، فكانت الخسارة الكبرى، وكان العطش الحقيقي.
بالمقابل، كانت إرادة الحكومة السورية أن تعيد هذه المنظومة بالكامل إلى سابق عهدها، لتعلن عبر مؤسسة مياه دير الزور أن الإرادة أقوى من الحرب، والعقيدة أقوى من الحقد، والعزيمة لا تنثني.
خروج المحطات عن الخدمة
“البعث الأسبوعية” التقت مدير عام مؤسسة المياه بدير الزور، المهندس ربيع العلي، فكان حديث الوجع وحديث النصر.
يقول العلي، في إشارة منه إلى الحال السيئة التي وصلت إليها منظومة مياه دير الزور، أن عدد محطات المياه، عام ٢٠١١، كان ١٢٢ محطة، بالإضافة لأكثر من ٤٠٠ خزان موزعة في الريف، بدءأ من حدود الرقة وانتهاءا بالحدود العراقية في البوكمال، ليتبين بعد أن تم تحرير مدينة دير الزور من الحصار، نهاية علم ٢٠١٧، أن العدد أصبح صفرا، باسثناء المحطة الرئيسية التي بقيت تعمل بنصف طاقتها فقط، بسبب خروج المأخذ الخامي عن الخدمة لتغذية ما أمكن من أحياء المدينة، وذلك بعد أن خرجت محطة الباسل الرئيسية ذات الطاقة الانتاجية ١٠٠٠ متر مكعب ساعي في اليوم الواحد، من أصل ٢٧٠٠ متر مكعب، لتجد المؤسسة نفسها أمام واقع صعب حتّمَ ما عليها وضع خطة عمل مكثفة لإعادة تأهيل المحطات المفقودة كاملة.
أولى خطوات المؤسسة كانت في إعادة تأهيل المحطة الرئيسية ورفع الطاقة الإنتاجية، والانتقال إلى المأخذ الخامي الأساسي الذي خرج عن الخدمة، فكانت البداية القدرة على ضخ ٢٧٠٠ متر مكعب ساعي من المحطة الرئيسية بشكل كامل، وحينها كان التركيز على الكم بالتوازي مع تحسين النوعية، وتم الانتقال فورا إلى محطة الباسل لإعادة تأهيلها، وبإمكانات المؤسسة وكوادرها الفنية فقط، لتعود إلى العمل بطاقة انتاجية في المرحلة الاولى ٢٠ ألف متر مكعب من أصل كامل طاقتها في إنتاج مياه الشرب، والبالغة ٦٠ ألف متر مكعب، وفي المرحلة التالية، دخلت مجموعة أخرى في الخدمة لتصل الطاقة الإنتاجية إلى ٤٠ ألف متر مكعب، واستطعنا عام ٢٠٢٠ تحقيق كامل الطاقة لتعود محطة الباسل إلى الخدمة، ولتبدأ بعدها عملية الضخ إلى المدينة ضمن خط يبلغ طوله ١٢ كم، بالاعتماد على خزان البروك الذي يستوعب ٥٠ ألف متر مكعب.. هذا بعد تأمين الضاغط المناسب لتحقيق عملية إيصال المياه إلى الأحياء المستهدفة؛ وللعلم فإن إعادة تأهيل المحطات لا تكفي ما لم يتزامن هذا مع تأهيل الشبكات لعودة التغذية للمدينة المحررة.
أما في الشق الغربي من النهر، الواقع تحت سيطرة الجيش العربي السوري، فهناك ٧١ محطة من أصل ١٢٢، والفارق بين الرقمين تحت سيطرة الميلشيات الانفصالية العميلة حاليا، وهنا تم وضع خطة عمل بالتوازي مع تأهيل محطات الضخ والشبكات ضمن المدينة والريف.
عودة الأهالي إلى الأحياء المحررة
ويضيف مدير عام مؤسسة مياه دير الزور بأن الريف الغربي هو أول منطقة ريفية شهدت عودة تدريجية للأهالي، وحينها تم التوجه فورا إلى تلك المناطق لإعادة تأهيل محطاتها وشبكات الري فيها، بما يتناسب مع أعداد السكان العائدين إلى أراضيهم وديارهم؛ وتزامن ذلك مع عودة تدريجية إلى الأحياء المحررة في المدينة، ما حدا بنا لتأهيل منظومة المياه في حي الجبيلة (أول الأحياء المُستقبلة لعودة الأهالي)، وحققنا تأهيل كامل الشبكة هناك خلال عام ٢٠١٧، ليمتد عملنا إلى حي العمال حيث أدى تأهيل الشبكة إلى تحفيز أبناء الحي للعودة إليه، وحينها ظهرت تجمعات سكانية محدودة في حي الحميدية حيث تم الكشف الحسي على الشبكة “المتضررة بالكامل”، فبادرنا لإعادة تأهيلها ليشهد شهر أيلول، عام ٢٠٢٠، انتهاء كامل الأعمال على شبكة ري حي الحميدية. وقد امتدت الورشات في النصف الثاني من العام الماضي نحو حي المطار القديم الذي شهد أول عودة للأهالي، فقمنا بتأمين المياء إلى ٧٠ بالمائة منه، وبقي ٣٠ بالمائة نظرا لعدم عودة الأهالي إليه، والمؤسسة قادرة على تغذيته متى تطلب الأمر، كاستكمال فقط للخطوط في الحي.
على مستوى الريف، قامت مؤسسة المياه بتأهيل ١٦ محطة عام ٢٠١٨، ليصل عددها إلى ٢٦ عام ٢٠١٩، ليشهد عام ٢٠٢٠ إعادة تأهيل ٦٤ محطة، وما تبقى تم إدخاله على الفور بعمليات التأهيل، حيث تم تأهيل المحطة رقم ٦٥ بداية العام الجاري؛ وخلال شهر آذار الفائت، أنهينا تأهيل المحطة رقم ٦٦؛ وإذا ما علمنا أن عدد المحطات المتضررة ٧١، فإن المحطات الخمسة الباقية قيد التأهيل حاليا، وأولها محطة حطلة الغربية التي ستدخل في الخدمة خلال الأيام القادمة، وثانيها محطة قطعة البوكمال التي بوشر بأعمال تأهيلها، وثالثها محطة السابع عشر من نيسان في حويجة صگر؛ وهذه المحطات ستدخل في الخدمة خلال شهر واحد، وبالتالي لم يبقَ سوى محطتين، لتكون المؤسسة أنجزت تأهيل مائة بالمائة من المحطات، إحداهما تقع مع الخط الفاصل مع الانفصاليين، وهي منطقة خالية من السكان ولا حاجة لتأهيلها؛ والمحطة الأخيرة هي “توسع 17 نيسان”، ولا حاجة لتأهيلها نظرا لوجودها في حويجة صگر المغطاة بمياة الشرب حاليا.
وللعلم فإن هذه المحطات تمت سرقتها بالكامل، بدءا من التجهيزات، مرورا بمجموعات التعقيم والأكبال والمحولات والأبواب والنوافذ، وانتهاء بمجموعات الضخ ومجموعات الري. ومن هنا، تبدو صعوبة العمل الذي تم إنجازه، والذي بدأ من الصفر حقيقة، بالتزامن مع الاهتمام ليس بكمية المياه وحسب، وإنما بنوعيتها، ما حتم علينا إعادة تأهيل منظومات التعقيم بالكامل في المحطة الرئيسية، ومحطة الشهيد باسل الأسد..
كان ذلك مع بداية العام ٢٠٢٠ – يضيف المهندس العلي – لتتمكن المؤسسة بعدها من تحقيق جودة مقبولة وإنجاز أعمال الإضافات الكيميائية ضمن الحُجر الملحقة بالمحطات والتي عملت على تحسين اللون والطعم والرائحة ورفع مستوى التعقيم. وحاليا، قمنا بتشكيل لجان لأخذ عينات دورية من بدايات ونهايات الشبكة للتأكد من صلاحية المياه بالاعتماد على مخابرنا، علما أننا لم نتمكن من إعادة إلا المخبر الرئيسي فقط، والذي يفي حاليا بالحاجةـ، على أمل إعادة تأهيل المخابر السبعة المتبقية، والتي كانت منتشرة في الوحدات، وتعرضت هي الأخرى للسرقة بما كان فيها من تجهيزات متطورة ذات كلفة عالية؛ وهو ما اضطرنا للاعتماد على المخبر الرئيسي المركزي. ونعمل حاليا على الانتهاء من إعادة تأهيل مخبر محطة الباسل مع نهاية شهر نيسان الحالي، بعد أن استطعنا تأمين التجهيزات اللازمة لذلك.
٥٠ بالمائة من الكادر
وصل كادر المؤسسة عام ٢٠١١ إلى ٢٣٠٠ عامل، لينخفض بفعل الحرب إلى ١١٠٠ فقط، وبالتالي نحن نعمل اليوم بـ ٥٠ بالمائة من الكادر الذي كان متوفرا قبل الحرب، ما انعكس سلبا على مستوى محطات الريف، لأن التسرب فيها كان مناطقيا، وبالتالي خلت الكثير من المحطات الريفية من العمال الذين كانوا يقومون بمهامهم فيها، ما جعلنا أمام مأزق حقيقي لجهة تأمين الكوادر المطلوبة، لدرجة أننا اعتمدنا على عامل واحد لتشغيل أكثر من محطة، وعلى كادر محطة ليقوم بتشغيل المحطات المجاورة التي بلغ عدد العمال فيها صفرا؛ ومن هنا تبدو الصورة الحالية لمعاناتنا لجهة تأمين الكوادر الفنية اللازمة؛ أما الحديث على مستوى نقص المهندسين فقد انخفض عددهم من ٥٢ مهندسا إلى ١٣ فقط، مع التذكير هنا بفقدان الكادر الفني وخريجي المعاهد الذين يشكلون متلازمة العمل في المؤسسة.
– وماذا عن المباني والآليات؟
إذا ما استثنينا الاضرار التي لحقت بالمحطة الرئيسية، والتي تباشر المؤسسة عملها منها، فإن نسبة الضرر والدمار التي لحقت بمباني المديرية ١٠٠%، وأولها البناء الأساسي الضخم الذي تم توجيه قسم الدراسات في المؤسسة لوضع التقارير الفنية حول سلامته الهندسية، ليتبين بنتيجة المعاينة أنه لا حل إلا بترحيله كاملا، وبدء البناء من جديد، أما عن الآليات فقد بلغ عدد أسطول المؤسسة منها ١٣٠ آلية عام ٢٠١١، بما فيها الصهاريج الضخمة وسيارات النقل الحقلية ورؤوس الشاحنات والقلابات والتركسات وآليات الحفر، وهذا العدد مستثنى منه الدراجات النارية التي بلغ عددها ٣٠١ دراجة، وبالتالي فإن أسطول مؤسسة المياه – الذي بلغ ٤٣٠ آلية عام ٢٠١١ – انخفض اليوم إلى ٢٧، بما فيها الدراجات النارية، وبقينا معتمدين على بواگر عدد ٢، وتركس واحد بحالة فنية لا بأس بها.
مسابقة المسرحين واختبارات للتوظيف
أجرت المؤسسة مؤخرا اختبارا لمتقدمين من الفئتين الرابعة والخامسة، نجح منهم ١٠٢، يفترض أن تكون مباشرتهم قريبة لدينا بالتنسيق مع الوزارة؛ أما الفئات الاولى والثانية فتخضع لمسابقات وزارية لم يتم الاعلان عنها بعد؛ أما ما يخص مسابقة المسرحين فقد قمنا برفع حاجتنا إلى الوزارة من أعداد المتقدين إلى المسابقة المذكورة، وترتبط آلية تعيينهم بالرغبات التي تقدم بها المسرحون، والذين بلغ عددهم ٧٥ مسرحا في دير الزور، نأمل أن يكون لدينا نصيب منهم، وبما يتناسب والرغبات التي تقدموا بها خلال تقديم أوراق تعيينهم للاستفادة من مسابقة المسرحين.
لاعكارة بعد اليوم
ترتفع عكارة النهر في أشهر الربيع (آذار ونيسان وأيار) بسبب ارتفاع مستوى منسوب مياه نهر الفرات، ما يؤدي إلى زيادة العكارة وتغير لون المياه بفعل الأوحال المنجرفة في النهر. وتقاس العكارة بالظروف الطبيعية بوحدة قياس تدعى MTU، وطالما أن مؤشر القياس دون الدرجة الرابعة، يمكننا ضخ المياه نظرا لصلاحيتها للشرب لغاية هذه الدرجة. وفي الحالات الطارئة، يمكننا الضخ ما بين خمسة إلى عشرة MTU حين تصل العكارة إلى ذروتها؛ ومع ذلك، لم تعد المؤسسة تعاني من عكارة مياه الشرب بعد أن تمكنا من زيادة زمن الترقيد إلى ثلاث أضعاف مدتها في الأحوال الطبيعية، وإدخال الخلاطات الكيميائية الحديثة في الخزانات.
توفير مئات الملايين على خزينة الدولة
ما يعانيه القطر من حصار أفقدنا القدرة على تأمين تجهيزات جديدة؛ ومع عزيمة الحكومة السورية بأن تعود منظومة المياه في دير الزور إلى ما كانت عليه، قامت ورشاتنا الفنية – رغم قلة عددها – بتجميع كل ما هو موجود في المستودعات المسروقة من الأجهزة التالفة، وبدأنا بخبراتنا المحلية بتفكيكها جميعا وإعادة تأهيل ما يمكن تأهيله، أو الاستفادة من الأجهزة المعطوبة تماما باستخراج قطع الغيار منها، بما في ذلك ما عثرنا عليه من “أُكَر” وصمامات.. وما إلى ذلك، فكانت جهود الفنيين في المؤسسة جبارة جدا بأن أوصلتنا إلى عدم شراء أي قطع غيار، وتوفير مئات الملايين على خزينة الدولة عبر عمليات إعادة تأهيل ما يمكن تأهيله؛ إذ ليس من المنطق أن نستسلم للحصار ولا نؤمن بقدراتنا، فكانت النتيجة استخراج جهاز واحد مثلا من أربع أجهزة معطوبة، والاستفادة من كافة القطع القادرة على العمل.. وفيما بعد، تمت الاستفادة من الأجهزة المعاد تأهيلها عبر توظيفها من جديد، وهذا ما أغنانا عن الاستسلام أمام مسألة شراء أجهزة جديدة.. وهنا لا يمكننا تجاهل العون الذي قدمته المنظمات الدولية عندما مدت يدها – وإن كان بشروطها – وكل ذلك بمعزل عن إنجازات ما تبقى من كوادرنا وفنيينا.