“أدب الجبهة” وثيقة واقعية في الواقع الأزرق الافتراضي.. “ياسر حسن أنموذجاً”
“البعث الأسبوعية” ــ ميسون عبد العزيز عمران
مع تراجع القراءة الورقية، تظهر القراءة الإلكترونية في العالم الافتراضي على الفيسبوك، وتكتسح، بقرائها وسرعة التفاعل معها، القراءة الورقية.
بالطبع، لا مجال لمقارنة القرّاء بين هذين الفضائين: الأزرق والورقي، حيث يقصد القارئ فضاء الورق بكامل محتواه، في حين يعج الفضاء الأزرق بفوضوية كتابات غير متناسقة وقراءات عشوائية، سريعة. ومع ذلك، استطاع مستخدمون يصح أن نطلق عليهم تسمية “كتّاباً” أن يستقطبوا قراءً لكتاباتهم، ومنهم ياسر حسن، وهو أنموذج لكتّاب استطاعوا أن يؤسسوا لاتجاه أدبي جديد في هذا الفضاء” “أدب الجبهة”.
أدب الحرب
الكتابة عن الحرب ليست اتجاهاً جديداً، لكن الكتابة عنها من موقع الجبهة، وبالآنية التي يوفرها شرط الفيسبوك، وبيد الجنود أنفسهم، هو الجديد في هذا الاتجاه..
في مجال الكتابة التي أعني – و”حسن” أنموذجها – تتكون حالة كتابية لها بداية ومتن وخاتمة، ولا تصل في كل مرة إلى أن تكون قصة، لكنها بانسيابية القصة وبتكثيف حكائي شعري بمعناه، كصور خلاقة تبني العالم الخارجي من داخل الشخصية، لكن الشخصية هنا غالباً هي الكاتب “الجندي”، والزمن هو “الآن”,, إنه المتفجر في آن الحرب المتواصلة المختلفة بإيقاع الألم في كل منطقة.
الجندي الإنسان
على مدى سنوات الحرب، توجد صورتان نمطيتان للجندي السوري، الأولى هي ما حاولت القنوات ووسائل التواصل المعادية تشويهها، والثانية – الموازية – هي ما نروجها عنه كبطل (وهو حقاً كذلك)، لكنها صورة ببعد واحد.
ياسر حسن يأخذ الكتابة في منحى آخر، المنحى الإنساني للجندي.. “الجندي الإنسان”!
الكاتب هنا لا يتخيل، يكثف ما يحدث في منشور أدبي قد يكون، لمرات، حكاية، أو مشهدية شعرية يكون المكان الجريح هو بطلها، أو لقطة أدبية تعكس حدثاً:
“سأرسم وجوه الجنود.. حبات زيتون.. وأنت سأرسمك مدينة.. ربما الرقة، فيلف الفرات خصرك زناراً، تفكين أزرار المساء نخلةً نخلة، وترقصين حتى يتعب الليل..”.
ما الذي يحدث في الحرب أكثر من الحرب؟ إنها التفاصيل التي تفاجئنا، نحن الذين أحببنا جنودنا دون أن نعرفها؛ تفاصيل تعطي كثافة الجندي الإنسانية المستحقة، التفاصيل التي لا تهم الكتاب عادة فهي ليست الحرب؛ وهي ليست الحدث فيعطيها “حسن” حيزها وحضورها، لأنها تكوين المشهد الخفي الذي يعطي تلك الكثافة ويبعد التنميط، فيجعل منها حدثاً بحد ذاته، فيخلق الفيض غير المتوقع عن الحرب. من زاوية لا تبدو أنها الحرب، وتكون كل الحرب عليها بدلالتها:
“شرب المتة هنا ليس فعلاً آمناً أبداً، رصاص القنص يدوي فوق رؤوسنا وبضع قذائف تسقط هنا وهناك، إلا أننا ما زلنا نشرب المتة.. أن تزرع الورد في علب اللبن الفارغة يعني أنك ما زلت تحب الأرض.. لست بحاجة إلى حديقة المدينة.. أن تكتب اسم حبيبتك على جدار مهدم يعني أنك ما زلت قادراً على الحب..”.
تمكن ياسر حسن من تكوين الصورة بزاوية مختلفة، وبأسلوب استطاع جذب المئات بتفاعل مباشر من قرائه، بتفاعل حي كما لو أن المنشور ليس على صفحة إلكترونية، بل على منصة تجمع القراء سوياً، وهذه ميزة الفيسبوك بقدرته على الوصول السريع والآني.. كمراسل حربي!
مراسل حربي!
حربي!؟ لا، ليس الأمر كذلك! لا ينقل ياسر حسن سير الحرب، بل وقعها.. ذلك الجندي الذي يشتهي الحياة.. الذي وقعت عليه بشكل خاص قسوة أن يكون البطل المنقذ في حرب معقدة، ينقل الصورة المركبة لجندي نصفه مدني، ولج الحرب غصباً عنه، في حرب ولجتها بلاده غصباً عنها، أمام عدو لم يكن يراه عدواً.. وأمام تلك الصور المتناقضة، تخرج نصوصه المتنوعة أدبياً لتشرح صورة عن الحرب لا تشبه الإعلام ولا تشبه ما يحكى عاده في الحرب:
“منذ عدة أيام استشهد رفيقان لي هنا.. أحدهما أمام عيني. كنت أراقب عجزنا عن إسعافه، فالشارع مقنوص. فكرت في كل أحلامه وأمنياته وتفاصيل أجهلها.. لقد انتهت الآن، ولن يضيره أن فاته عرض السيرياتيل الخاص بالجنود مع باقة (خليك سهران).. ولن يتابع إشاعات (التسريح) الذي انتظره سنوات..”.
هي قصة من قصة كبيرة هي الحرب، نحن شخوص القصة لأننا شخوص الحرب. وها نحن، جميعنا، في هذه الحرب؛ لكنها تبدو كدائرة، هناك من هو على محيطها، وهناك من هو في منتصف قطرها، وهناك من هو في مركزها؛ ومع ذلك قد لا تراها.. أنت تعيشها وحسب.. لا تراها!! إلا أن حسن يعيد تكثيفها من موقعه “الجبهة” في مشاهده الشعرية، فتستطيع رؤية الحرب بوجهها المركب.
أيخاف الجندي الموت؟
“الجندي لا يخاف، هو بطل يقضي على الأشرار؛ لكنني أخاف.. أخاف من الموت، أراه كل يوم يأخذ رفاقاً لي.. ينظر إلي فأدير وجهي علّه لا يراني.. يهزأ بي، وهو يمسكني من أذني كطالب كسول، ثم يضحك بشدة: خفت روح.. روح لسّا ما إجى دورك”.
مع صخب الحرب يخرج بمشهدية شعرية يصر فيها حسن على تغيير نمطية البطولة المرتبطة بالجندي، فالإصرار على الحياة هو فعل بطولة:
“هنا نشاكس الموت، نروضه، نلاعبه، نتخذه صديقاً، كي لا يغدر بنا ونحن نشرب المتة”.
يربط حسن تعقيد الحرب بالمجتمع الجديد الذي ينشأ:
“.. هناك من يخاف أن يعود الدولار إلى سعره القديم، فيفقد مليارات بذل الكثير من البذاءة كي يجمعها؛ وهناك من يخاف من رصاصة تفاجئه في الليل وهو يقلي بيضتين على ضوء شمعة..”.
ويدخل إلى تعقيد العدو المفترض الذي يواجهه، والذي لم يتخيل أن يكون “هو” من يواجهه:
“هو في مرماك، الآن! تراه غير واضح بين عامود الكهرباء ومدخل البناء المهدم.. لحسن الحظ، لا تلحظ عينيه.. هل لديه أطفال؟ هل كان يمشي في زحام المدينة؟ هل كان يسرع في طريق عودته من المدرسة كي يشاهد ساسوكي، ويتناول طعام الغداء وعيناه مسمرتان على التلفاز؟! أكان عاشقاً خجولاً في معسكر صف العاشر؟! هل بكى فرحاً يوم ربحنا كأس آسيا للشباب؟”.
على بساطتها، لكن الصور تشي بتداعيها ذاكرة جمعية لجيل تعوّد أن يكون في المدارس رتلاً واحداً (ترادف!!).. فأسبل ذراعيه، ووجه سلاحه إلى من اتكأ بيده على كتفه، فأربك من يواجهه، وهو يردد ما عاشه معه!!
مرآة الألم
في هذا الأزرق، كتب كثير من الجنود عن الفضاء الذي امتلأ بغبار الحرب ودماء الأبرياء – والجنود أنفسهم أحد هؤلاء الأبرياء – ليؤسسوا لـ “أدب الجبهة” الذي يستحق أن يكون وثيقة عن الحرب التي لا يحكيها الإعلام، وثيقة تؤنسن ما يحكى بالأرقام، في حكايات أكثر ما هو مؤلم فيها أنها تقع الآن..