80 حولاً من الحب..
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
هل ننتظر؟
الرأي الحصيف يقول لا، استناداً لما أرسله لنا عبر أقنية الزمن وعبر تعاقب الأجيال، الفيلسوف الأشهر أرسطو، حين قال: “علينا أن نحرر أنفسنا من الأمل بأن البحر يوماً ما سيهدأ، علينا أن نتعلم الإبحار وسط الرياح العاتية”.
في غمرة البحث عن مواهب جديدة لرفد ثقافة الطفل السورية – أدبها وفنها في شعرها وقصصها وروايتها – كان تمجيد الرعيل الراحل المؤسس واجب تقتضيه الضرورات التي تربّينا عليها، من وفاء وأعراف وجميل خلق، والأخذ بيد الوافدين الجدد لهذه المضمارات، واجب تقتضيه أيضاً الضرورات نفسها، ونزيد عليها الرغبة في النظر عبرهم إلى المستقبل.
لكن هناك جيلاً من المخضرمين الصامتين، عاش العصرين من الحب، فأمسك بيد طرف عباءة المؤسسين، وبيده الثانية أزاح الأكمة المتداخلة في نهاية الطريق، ليبان، للمقبلين على الطفولة بحب، شعراء وأدباء وروائيون كتبوا للطفولة، وما زال في دواخلهم طفل متمرد مشاكس يحاول الانفلات من قيود الزمان والمكان والظروف القاسية المحيطة بهذه الأرض النبيلة، ليمارسوا عبثهم الجميل بغيوم الخيال، ويمتطوا صهوات ريح الإبداع ليتحفون، في كل حين وحين، بقصيدة أو قصة أو مقال أو رواية. حريّ بنا جميعاً البحث عنهم في زوايا ذاكرتنا الجمعية، وفي أمسياتنا الثقافية ليلعتلوا منابرها، وفي مراكزنا الثقافية ليملؤوا بعبير إبداعهم قاعاتها، ولمجلاتنا وكتبنا الطفولية لتزدان بنبل حروفهم.
شاعر الزيتون البكر
محمد قرانيا اسم نعرفه جميعاً، نحبه ويحبنا؛ يكتب القصيدة للطفولة وكأنه يعصر الزيتون المبارك من زيتونته العتيقة في حوش الدار، هناك، في جبل أريحا، حيث يحلو السهر مع رائحة الزيت البكر، والزعتر البري، وكروم الكرز المعمرة، وعواءات الضباع البعيدة..
هيبة من ألق شعره وبراءة محياه، عرفته عبر الفضاء الأزرق وعن بعد، ولكني دهشت لكّم الحب والاحترام الذي يعتري سيرة هذا الشاعر النبيل. ما من أحد إلا ويحب قرانيا، ويبادله الأخير حبه حباً، ولمست حبه من حوارات عدة جرت فيما بيننا؛ كان يطوي المسافات، ويقول بكل كلمة يبثها لك: أنا جارك وصديقك والأخ الذي ولدته أمك، سورية، وأنا راعي القوافي وكروم الزيتون.
في قصائد قرانيا تجد، وبدون ريب، أنك تجلس وسط بستان من أشجار معمِّرة تنبض بالحب، وستسمع زقزقة دوري متمرد على برد النوافذ ينقر بنقرات رتيبة لتفتح له يد عجوز، حانية، وتفت له خبزاً محمصاً على نار حطب الزيتون.. تلك اليد الحانية سنكتشف، في آخر كل قصيدة من قصائده، أنها يده هو، وهو ينقش بنبض تراب أرض إدلب الخضراء كلماته على صفحات المجلات والكتب، كأنه يزين راحة عروس بالحناء المضمخ بلون الكرز الأريحاوي. وقد يكون من الإنصاف التعرض لقصائد قرانيا بعين خبير وناقد ومتذوق للشعر، ليخرج لنا مكامن جمالها الذي نستشعره نحن، والأطفال، بالسليقة السورية البكر، ويكون كتاب جامع لأعماله ولسيرته المهنية والشعرية، ليكون أيقونة من أيقونات القدوة لشبابنا الشعراء.
في سيرة ابن أريحا، المولود عام 1941، العديد من المنشورات الخاصة به، تذهلك في كمها ونوعها وتعدد مجالات الحب فيها، من شعر ودراسة وقصة – وأنا أكيد أن في القلب والوجدان ألف حكاية وحكاية ما زالت خبيئة الصدر الجميل؛ فنهر الحب لن يتوقف عن الجريان داخل وجدان الشاعر قرانيا – و”نهر الحب” هو عنوان مجموعة شعرية له صدرت عن وزارة الثقافة السورية، عام 1994. كما صدر له الكثير من العناوين الطفولية، منها: “نوادر وفكاهات أدبية”، وسلسلة “مازن الصغير”، و”وسام والياسمين”، و”المجد للطفولة”، و”القمر يحب الأطفال”، و”ألعابنا الحلوة”.
على مقام النواعير
بين أريحا وحماة، هناك طريق مليء بأشجار الفستق الحلبي؛ كشاخصات الطرق تدلك، وهي تنصب في صعودها ونزولها كالشلال، إلى منبع الماء وهدير خشب النواعير. هناك، غير بعيد عن القلب ولا عن المكان، يسكن الطبيب الإنسان، وكاتب الطفولة الخلوق، موفق أبو طوق. حكاياته العلمية المبسطة، وأسلوبه السردي في قصص الأطفال، يمنحانك فسحة من معرفة ثرية بلغة جذلى تطرب أفئدة الصغار – وكلنا أطفال صغار في زوايا أرواحنا العميقة! وكرفيقه قرانيا، فإن الأديب الطبيب أبو طوق يحمل شعلة النبل والعطاء للطفولة، ولا يمل من تلقيمها حطب الأمل والسنين بأن الغد أفضل، وبأن هناك من سيمد اليد لتكريم هؤلاء الفرسان النبلاء العاملين بصمت القديسين. جور البعد عن المنابر الثقافية وصفحات الكتب والمجلات، لم يمنعهما من المحاولات الحثيثة والمستمرة والدؤوبة.
تشرفت عدة مرات برسم أعمال أدبية للمبدع موفق أبو طوق، وكان كأنه الوجه الآخر لعملة ذاك الجيل من المبدعين، يغرقك بلطف منقطع النظير، وروح معطاءة، وقلب نبيل، وهو يحاورك عن كل تفصيلة وجزئية في عمله للطفل.. كان من جميل الصدف أن تجمعني به كل الزيارات التي يقوم بها الدكتور موفق لدمشق، ليحضر اجتماع جمعية أدب الأطفال في اتحاد الكتاب العرب، ولطالما جلسنا نحتسي الشاي في مقر مجلة “أسامة”، أو في مكتبتي الصغيرة في الحلبوني، وتفيض من ثنايا أبو طوق ذكريات الكتابة للأطفال، وعلاقته بالراحلة دلال حاتم، وبامتداد هذه السبحة من الدر التي شكلت وعي وذائقة ثقافة أطفال سورية عبر صفحات المجلة الحبيبة على قلوبنا جميعاً.
من مؤلفاته الغنية بالطفولة الناضحة بالبراءة: “الرحلة الطويلة”، و”الهجوم الكبير”، و”اعترافات علاء الدين”، و”مروان والألوان”، و”الورد يبتسم دائماً”، و”يوميات دموع”، وآخرها “الذبابة المغرورة” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، والتي شرفني برسم لوحاتها.
إبريق الزيت الناضح
في أيلول القادم تحتفل دار النشر الفرنسية “لومبار ومولانسار” بذكرى مرور 75 عاماً على إصدارها للجريدة الأسبوعية “تان تان” المخصصة للشباب من سن سبع سنوات حيث كان أول ظهور لها في 26 أيلول 1946، وهي الجريدة الخاصة بالفن التاسع للرسوم المتحركة. وبهذه المناسبة، ستحتفي بلجيكا بالفنان هيرجي، مبدع قصة “كرات الكريستال السبع”، الألبوم الثالث عشر في سلسلة “تان تان”، عبر احتفالية مميزة خاصة به، تمجيداً لدوره الرائد ولأثره النبيل في ثقافة أطفال بلده الأم، بلجيكا، ونقل اسم موطنه للمحافل العالمية، وسيكون الاحتفال كما يليق بصانع بهجة وثقافة أطفال.
ونحن مطالبون كي لا يقال أن الزمن يخطف منا الأحبة والمبدعين، فلا نتذكرهم إلا بعد الرحيل الموجع، أن نكرم قاماتنا وأعمدة ثقافة أطفالنا بما يليق بهم من مكرمات، وأن نجعل منابرنا الثقافية تضج بحضورهم وجلجلة أصواتهم الغنية بالحب من أزمنة متنوعة، وبتراكم تجارب حريّ بها أن تدون بطريقة لائقة لتنهل منها الأجيال القادمة، وحتى لا نكون في يوم ما ضمن الدائرة التاسعة من تقسيمات دانتي لجحيمه المتخيّل.. هناك حيث يعيش من يخونون بكل تصنيفاتهم، ويكون منا من خان أمانة أناس أبدعوا لنا وأتحفونا بالكثير من الألق والخيال، ولم نؤد لهم حسن الشكر في يوم ما.