دراساتصحيفة البعث

الوساطة الروسية في حل أزمة سد النهضة

محمد نادر العمري

في تصريح لافت منذ أيام، قالت مصر إنها تعول على روسيا للتدخل في أزمة سد النهضة المحتدمة مع إثيوبيا، فما مدى قدرة موسكو على التصدي لتعنت أديس أبابا؟ وهل روسيا راغبة بالفعل في التدخل في الملف الذي يهدد استقرار المنطقة؟

كانت أزمة سد النهضة بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى قد وصلت إلى طريق مسدود بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة في كينشاسا عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي راعي المفاوضات، في التوصل لاتفاق قانوني ملزم تطالب به القاهرة والخرطوم وترفضه أديس أبابا.

وسبق تلك الجولة تهديد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 30 آذار الماضي بأن حصة مصر من مياه النيل “خط أحمر” وأن أي مساس بها يهدد استقرار المنطقة ككل لأن جميع الخيارات مفتوحة أمام القاهرة للحفاظ على حقوقها، كما وصفت مصر جولة كينشاسا بأنها الفرصة الأخيرة للتوصل لاتفاق قبل الملء الثاني للسد الذي تستعد إثيوبيا للبدء فيه خلال  تموز المقبل.

في ظل هذه الأجواء جاءت الدعوة المصرية للتدخل الروسي على لسان وزير الخارجية سامح شكري خلال مؤتمر صحفي مشترك عقده مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في القاهرة 12 نيسان الجاري، حيث قال: إن القاهرة “تعول على قدرة روسيا في الدفع نحو وقف الإجراءات الأحادية من جانب إثيوبيا في ملف سد النهضة”.

لافروف من جانبه أكد على موقف بلاده الثابت والمتمثل في “رفض المساس بالحقوق المائية التاريخية لمصر في مياه النيل، ورفض الإجراءات الأحادية في هذا الصدد”، معرباً عن التقدير لما وصفه بـ”الجهود الحثيثة والمخلصة التي تبذلها مصر في هذا الإطار”، وعن تطلع موسكو إلى “التوصل إلى حل يحقق مصالح الأطراف كافة، من خلال المفاوضات في أقرب وقت ممكن”.

لماذا طلبت مصر تدخل روسيا؟

لا تعتبر روسيا غريبة عن أزمة سد النهضة، فقد عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالفعل المساعدة لتقريب وجهات النظر بين القاهرة وأديس أبابا في هذا الملف الشائك، وكان ذلك في شهر تشرين الأول 2019، خلال القمة الروسية الإفريقية التي عُقدت في مدينة سوتشي الروسية، وشهدت لقاءات مباشرة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بالإضافة إلى لقاءات بين السيسي وبوتين وآبي أحمد وبوتين تناولت نفس الملف.

لكن يمكن القول: إن مياهاً كثيرة قد جرت في النهر منذ تلك القمة في سوتشي، واليوم وصلت الأمور إلى نقطة حاسمة تهدد الاستقرار في المنطقة بأسرها، حسب وصف السيسي خلال لقائه لافروف مؤخراً، في ظل إصرار أديس أبابا على تنفيذ الملء الثاني للسد، في تموز المقبل، دون التوصل لاتفاق قانوني ملزم بشأن تعبئة وتشغيل السد العملاق، وهو ما ترفضه دولتا المصب مصر والسودان.

وفي هذا السياق يأتي الطلب المصري من روسيا التدخل في الملف، في ظل “التعنت الإثيوبي” في المفاوضات، على أمل أن تتمكن موسكو من خلال علاقاتها القوية لدى أطراف النزاع، من إقناع الجانب الإثيوبي بتغيير موقفه والتوصل لاتفاق يراعي المخاوف المصرية من التأثير السلبي على حصة مصر التاريخية من مياه نهر النيل.

هل تمتلك روسيا أوراقاً للضغط على إثيوبيا؟

كانت روسيا القيصرية تتمتع بعلاقات وثيقة مع إثيوبيا، وامتدت تلك العلاقات الاقتصادية والعسكرية أثناء الاتحاد السوفييتي السابق حتى انهياره مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومؤخراً عزز الرئيس بوتين العلاقات الروسية الأفريقة، ضمن محددات السياسة الخارجية الروسية، ونجح خلال القمة الروسية-الإفريقية في سوتشي، أواخر تشرين الأول 2019، في استضافة 50 زعيماً إفريقيا.

واستبق بوتين القمة بإسقاط الديون الروسية لدى إثيوبيا بشكل كامل، بموجب مبادرة إسقاط الديون للمساهمة في تنمية إفريقيا، وهو ما تم البناء عليه بالفعل من وقتها حتى اليوم، حيث ارتفعت الاستثمارات الروسية في أديس أبابا بصورة لافتة عكستها زيارة وفد ضخم من المستثمرين الروس إلى أديس أبابا، في شباط الماضي، لتوقيع اتفاقيات للاستثمار في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والتجارة.

وعلى الجانب الآخر تتمتع روسيا بعلاقات اقتصادية وعسكرية متصاعدة مع مصر أيضاً، عكستها تصريحات المتحدث باسم الرئاسة المصرية بشأن لقاء لافروف والسيسي، والذي تناول عدداً من الموضوعات المتعلقة بالعلاقات الثنائية بين البلدين، ومنها التعاون على الصعيدين العسكري والأمني، بما فيه آلية التعاون المشترك في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب على مستوى الأجهزة المعنية، بالإضافة إلى الجهود المشتركة لاستئناف الرحلات الجوية الروسية إلى مصر والمشاورات الجارية في هذا الإطار، كذلك مشروع محطة الضبعة النووية، والإعداد للدورة القادمة للجنة الاقتصادية المشتركة، بحسب صحيفة الأهرام المصرية.

المتحدث الرئاسي المصري أكد أيضاً حرص مصر على تعزيز علاقات الشراكة الممتدة مع روسيا، في إطار التطور المستمر الذي تشهده تلك العلاقات، والذي تكلل بإبرام اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة، وتصديق البرلمان المصري عليها مؤخراً، لافتاً إلى أن الاتفاقية تفتح آفاقاً جديدة رحبة للتعاون الثنائي بين البلدين الصديقين، في العديد من المجالات والمشروعات المشتركة، بالإضافة إلى تلك الجاري تنفيذها، خاصة مشروع إنشاء المنطقة الصناعية الروسية في شرق بورسعيد، ومشروع إنشاء محطة الضبعة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية.

روسيا إذاً تمتلك استثمارات ضخمة في كل من مصر وإثيوبيا، ومن مصلحتها ألا تنزلق أزمة سد النهضة إلى مواجهة عسكرية بين البلدين، تهدد الاستقرار في منطقة ترى فيها موسكو مجالاً حيوياً واعداً.

هل تمتلك روسيا فرصة لإحداث انفراجة في أزمة السد؟

العقبة الرئيسية وراء نجاح الوساطة الروسية في ملف سد النهضة تتمثل بالأساس في الجانب الإثيوبي وآبي أحمد بالتحديد، وهذا ما كشفت عنه الجولات الماراثونية من المفاوضات التي بات واضحاً أن هدف إثيوبيا منها لم يكن سوى إضاعة الوقت للوصول إلى إكمال تشييد السد والبدء في مراحل تعبئته، لفرض أمر واقع لا يمكن تغييره ببساطة.

والدليل الواضح على هذه النية الإثيوبية هو جولات مفاوضات واشنطن التي رعتها الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب، منذ تشرين الثاني 2019، وحتى شباط 2020، وتم التوصل خلالها بالفعل إلى اتفاق أبدت أديس أبابا موافقتها عليه بصورة مبدئية، ثم انسحبت من جولة التوقيع وأعلنت رفضها للاتفاق، وهو ما أصاب ترامب بالانزعاج من الموقف الإثيوبي _ على الأقل من الناحية الشكلية_ وأطلق تصريحه الشهير بأنه “لن يكون متفاجئاً إذا ما أقدمت مصر على توجيه ضربة عسكرية للسد”.

ويرى كثير من المراقبين أن هذه النقطة بالتحديد -فشل واشنطن في حل أزمة السد- تمثل حافزاً إضافياً للجانب الروسي لقبول الدعوة المصرية للتدخل في المفاوضات، التي وصلت لطريق مسدود، فنجاح موسكو فيما فشلت فيه واشنطن وفي ملف بمثل هذه الأهمية يمثل انتصاراً دبلوماسياً ضخماً لروسيا وللرئيس فلاديمير بوتين. وقد كان لافروف واضحاً في تصريحاته، عندما قال إن بلاده تولي “تطورات ملف سد النهضة اهتماماً كبيراً، كما تتطلع إلى استمرار الحوار بين الدول الثلاث، بشأن الوصول إلى اتفاق مرضي لجميع الأطراف”، مضيفاً: “نحن مقتنعون بأن هناك حلاً لأزمة سد النهضة يضمن المصالح الشرعية للدول الثلاث”.

لكن على الجانب الآخر تبدو فرصة حدوث انفراجة في أزمة السد ضئيلة للغاية، لعدة أسباب أبرزها ضيق الوقت قبل بدء الملء الثاني، إضافة إلى تحول الملف برمته إلى رمز للكرامة الوطنية في أديس أبابا والقاهرة، وليس فقط قضية مياه، وهو ما يجعل الوساطة الروسية التي طلبتها مصر تواجه مهمة شبه مستحيلة لإقناع الإثيوبيين بتأجيل الملء الثاني حتى التوصل لاتفاق، لكن تظل الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات.