ثقافةصحيفة البعث

فيرجينيا وولف عازفة تضبط إيقاع الكلمات

لاحظ العديد من نقاد فيرجينيا وولف الأوائل أوجه الشبه بين إبداعاتها الأدبية وإبداعات الملحنين المعاصرين أمثال كلود ديبوسي، لكنهم أهملوا اهتمام وولف بالموسيقا، وبعد مرور 80 عاماً على وفاتها، بدأ النقاد باستكشاف كيف تنبع استخداماتها التجريبية الاستثنائية للمنظور السردي والتكرار والتنوع من دراستها الدقيقة لأعمال وأشكال موسيقية معينة.

أحبت الموسيقا وولف بمفردات مكنتها من تخيل ووصف أعمالها الإبداعية، إذ إن وولف تشبّه نفسها عندما تكتب بعازفة بيانو تضبط أوتار آلتها، وتصف قراءتها بأنها “دوزنة” لكتابتها، وفي عام 1940 قالت عبارتها الشهيرة: “عجباً، مع أنني لست مولعة بالموسيقا على الدوام، إلا أنني أرى دوماً كلمات كتبي كنوتات موسيقية قبل أن أكتبها”.

الموسيقا في حياة وولف وكتاباتها

انغمست وولف في الموسيقا أثناء نشأتها، فعندما كانت شابة، كانت تحضر اوبريتات وحفلات موسيقية في دار الاوبرا الملكية ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع، وأحياناً كل ليلة، وتلقت تعليماً موسيقياً أساسياً في الغناء والعزف على البيانو، مثلها كمثل معظم النساء في سنها وطبقتها الاجتماعية، لكن شغفها كمستمع للموسيقا فاق قدراتها كعازفة بكثير.

نقلت وولف برسائلها ويومياتها مراراً حبها للموسيقا الكلاسيكية، لاسيما أعمال باخ وموتسارت وبيتهوفن وفاغنر، غير أنها سمعت تشكيلة واسعة من الموسيقا في بيئات متنوعة، إذ سمعت الموسيقا الشعبية أثناء سفرها في انكلترا واسكتلندا وأوروبا القارية، وتشربت الأغاني الهزلية والوطنية في المسارح الغنائية، وتذوقت ألحان أرنولد شوينبيرغ، وذخيرة موسيقية رائدة من خلال عضويتها في جمعية الغراموفونيك الوطنية، وموسيقا الباليه الروسية عندما زارت فرقة “روسِس باليه” لندن في عام 1912. كما نشرت دار “هوغارث برس” التي أسسها ليونارد وولف وفيرجينيا وولف دراسات حول الموسيقا المعاصرة، والملحنين المعاصرين، والكتب الرائجة التي تقدر قيمة الموسيقا، ومنحها فهمها لأبرز الملحنين ونقاد الموسيقا وقادة الاوركسترا وغيرهم من الموسيقيين، وأحياناً صداقاتها الحميمة معهم، بصيرة نافذة للحياة الموسيقية الاحترافية، وكان من بين أصدقائها الملحنان والناقدان ايدي ساكفيل ويست، وجيرالد بيرنرز، والمعلمة وقائدة الاوركسترا ناديا بولانغر، والمؤلفة الموسيقية والناشطة النسوية اثيل سميث.

ودفع حب وولف العاصف والدائم للموسيقا إلى اعتناقها مذاهب النسوية والسلم والكوزموبوليتية، وحفزت الأعراف الاجتماعية المحيطة بتعليم الموسيقا وعزفها وتأليفها في داخلها بعضاً من أذكى الكوميديات ​​الاجتماعية وأكثرها حدة، كما غذّت انتقاداتها لعدم تكافؤ فرص حصول النساء على تعليم موسيقي. وتشير وولف في روايتها الأولى “رحلة الخروج” إلى أعمال موسيقية محددة لتتحدى الاعتقاد السائد بأن على الرجال أن يعزفوا موسيقا تختلف عما تعزفه النساء، إذ تعزف بطلة الرواية، وهي عازفة بيانو هاوية بارعة، سوناتات البيانو لبيتهوفن، وهي أعمال وصفت كثيراً بأنها تتطلب جهداً جسدياً وذهنياً أكبر مما تستطيع العازفات تحمّله، ووصفت المقالات الموجهة إلى عازفات البيانو الهواة تلك الأعمال بأنها “بعيدة عن منالهن”.

كما تؤثر الموسيقا أيضاً في ابتكارات وولف الخلاقة، فعلى سبيل المثال، يتضارب الهيكل السردي المضاعف لرواية “السيدة دالاوي”، ويتشابك مع حياة سيدة المجتمع كلاريسا دالاوي، والمقاتل المخضرم سيبتيموس وارين سميث المصاب بصدمة نفسية، ولكن يمكن صياغته على غرار الشكل المضاعف للفوغا الموسيقية، (كان مصطلح “فوغا” آنذاك المصطلح المعاصر لارتجاج الدماغ). وقالت وولف عام 1909: “ما يثير الشفقة أننا ندرك عجز الكلمات عن التعبير عن روعة الموسيقا بما يفيها حقها”، لكن هذه الصعوبة تمسي في أحيان كثيرة موضوعاً لكتابتها.

إذاً، من غير المستغرب أن يكون نثرها مصدراً غنياً يلهم الإبداع في نفوس الملحنين، فعلى سبيل المثال، ألهمت أعمالها الملحن دومينيك أرغينتو عام 1974 لتأليف مجموعة أغان أسماها “من يوميات فيرجينيا وولف”، وألهمت أيضاً الملحن ماكس ريختر لتأليف موسيقا رقصة الباليه لعام 2015 المسماة “وولف ووركس [Woolf Works]”. وفي السنوات الخمس عشرة الماضية، انتشرت الردود الموسيقية على كتابات وولف، من الرباعية الوترية والأغاني التي قدمها مشروع “فيرجينيا وولف آند ميوزيك” لأول مرة، إلى الإعلان الأخير عن أن الملحنة الاسكتلندية ثيا موسغريف تكتب اوبرا مستوحاة من رواية “أورلاندو”. وفي مقال كتبته عام 1905، دعت وولف الكتاب المعاصرين لتذكر امتثال الكلمات للموسيقا والاستلهام منها، ويبدو أن هذا ما يفعله دارسو أعمال وولف في يومنا هذا.

ترجمة: علاء العطار