مجلة البعث الأسبوعية

دون الأتمتة والفوترة لن تسترد الدولة آلاف ملياراتها من المتهربين ضريبيا.. متى يأتي الدور على كبار التجار وحيتان المال؟

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

متى سيأتي الدور على كبار التجار وحيتان المال، بعدما استهدفت وزارة المالية الحلقة الأضعف في سلسلة المتهربين ضريبيا؟ فمهما كانت المبالغ التي ستحصلها وزارة المالية من البيوع العقارية فهي ضئيلة جدا مقارنة بآلاف المليارات التي يتهرب من دفعها كبار المكلفين – أي كبار التجار وحيتان المال – فحركة سوق العقارات غالبا ما تنشط في حالات استثنائية ومحدودة لا تقارن على الإطلاق بحركة التجارة اليومية بشقيها الداخلي والخارجي.

ولربما بدأت وزارة المالية بالحلقة الأضعف لأنه لا يوجد من يقدر على منع تنفيذ قانون يعيد حقوق الدولة المنهوبة في كل عملية بيع عقاري، في حين أن كبار التجار وحيتان المال – باعتراف رئيس الحكومة السابق – محميون، ولا يجرؤ أحد على إلزامهم بدفع الضريبة، بل أن وزارة المالية اعترفت بوجود تجار كبار يقدمون بيانات للدوائر الضريبية عن نشاطهم المقدر بالمليارات، ويزعمون فيها بأنهم خاسرون، أو أن أرباجهم ضئيلة جدا!!

والملفت أن لدى وزارة المالية الآليات الفعالة لمكافحة التهرب الضريبي، والأتمتة والفوترة أبرزها، فلم لا تطبقهما؟ لقد أقرت الوزارة من خلال قانون البيوع العقارية أنها أنجزت مشروع الأتمتة الذي تتحدث عنه منذ العام 2005، فلماذا لا تقوم بأتمتة أعمالها كافة، وبخاصة الجمارك، بما يتيح منع الاحتكاك المباشر بين المستورد والعاملين بمنافذ الحدود، وينزع ذريعة التجار بأن البيانات الجمركية غير صحيحة، وغير دقيقة، ويتدخل فيها مزاج العناصر الشخصية؟ وبإنجاز الأتمتة لن يعود لوزارة المالية أي مبرر لعدم الإفراج عن مشروع قانون الفوترة، المنجز منذ عام 2014، وتطبيقه فورا.

 

عدالة ضريبية غير مسبوقة

وتؤكد وزارة المالية أن القانون رقم 15 للعام 2021، الخاص بالبيوع العقارية، يحقق عدالة ضريبية غير مسبوقة تستند إلى بيانات وتخمينات رقمية واقعية ومؤتمتة لا يتدخل فيها العامل البشري، ما يمنع الفساد في تحصيل الضرائب المستَحقة عن بيع العقارات، حيث سيتم – وفق القانون – تحديد سعر المتر المربع للعقار السكني والتجاري في جميع المدن والمناطق والبلدات عبر لجان مختصة، ويتم تثبيت هذه القيم في نظام مؤتمت لتكون مرجعا عند تحديد الضريبة على البيع، وفق النسب الضريبية الواردة بوضوح في القانون؛ وعندها يلتغي دور العنصر البشري في تحديد الضريبة من خلال ربط عقود البيع مع القيمة الرائجة للعقارات والمسجلة في بيانات مؤتمتة مُسبقا.

تصوروا.. لو أن وزارة المالية طبقت الأتمتة والفوترة في مجال التشاط التجاري لكان حجم الإيرادات الضريبية للخزينة العامة تلاءم مع الأرباح التي تتحقق من عمليات البيع والاستيراد وهي بآلاف المليارات.. وأكثر من ذلك، فإن منح رقم ضريبي لكل مكلفـ سواء كان تاجرا صغيرا أم من الكبار، مع آليات مراقبة أعماله من خلال الأتمتة والفوترة، يمنع التهرب أو يخفضه إلى الحد المتعارف عليه عالميا.

 

تحسين المستوى المعيشي

لقد أكد وزير المالية أن قانون البيوع العقارية الجديد يعزّز دور الدولة في تحسين المستوى المعيشي للمواطنين من خلال معالجة التهرب الضريبي الكبير في مجال بيع وشراء وتأجير العقارات؛ وإذا كان تحسن الأوضاع المعيشية سيتحقق باستهداف الحلقة الأضعف في سلسلة المتهربين من دفع الضريبة، فلماذا لا تستهدف وزارة المالية الحلقة الأقوى، أي كبار التجار وحيتان المال ليكون تحسن الأحوال، المعيشية أكبر وأسرع. ونكرر أن فوات المنفعة والإيرادات على خزينة الدولة في مجال بيع وشراء وتأجير العقارات – مهما بلغت – لا يقارن بفوات المنفعة والإيرادات في العمليات التجارية التي تجري في كل ثانية، وليس في الساعة أو اليوم.

وصحيح أن خزينة الدولة كانت تُحرم على مدى السنوات الماضية من الإيرادات الحقيقية الناجمة عن البيوع العقارية، لأن ضريبة البيوع العقارية لم تعد تتلاءم مع الواقع الفعلي لأسعار العقارات، كونها تستوفى استنادا للقيمة المالية الموجودة لدى الدوائر المالية، وفقا للقوانين القائمة منذ ما قبل عام 1997، ولكن الأصح أن تستهدف وزارة المالية المطارح الضريبية الأعلى، والناجمة عن نشاط كبار التجار وحيتان المال.

 

من يمنع تطبيق الفوترة؟

وتسعى وزارة المالية منذ مطلع القرن الحالي لتطبيق الفوترة، لكنها عجزت عن فعلها حتى الآن. وقد أخفقت الحملة الإعلانية التي أطلقتها الوزارة، في العام 2004، لتعميم ثقافة الفوترة، وانتهت إلى الفشل الذريع، ولم تنفع اللوحات الإعلانية الضخمة في المدن السورية بألوانها الزاهية وتصاميمها الفنية الراقية بإقناع التجار والمستوردين بتطبيق نظام الفوترة.

ومع أن وزارة المالية هي المتضرر الأول من عدم تطبيق نظام الفوترة، فإن جهودها انصبت حتى الآن على الترغيب، ولم تعمل جديا على إعداد مشروع قانون لتطبيق ضريبة القيمة المضافة التي تعد مدخلا ومعبرا أساسيا لتطبيق نظام الفوترة، كما أنها لم تكن جدية بتتنفيذ “الأتمتة” في الجمارك العامة. وبالمقابل لم تقم وزارتي التجارة الداخلية والخارجية على مدى العقود الماضية بمساعي فعلية لإلزام التجار والمستوردين بالتعامل بالفواتير، سواء عبر المنافذ الجمركية، أو الأسواق الداخلية. ولو عدنا إلى الوراء، لاكتشفنا بسهولة أن حكايتنا مع الفوترة طويلة، ولم تستطع الحكومات السابقة أن تجد نهاية سعيدة لها إلى الآن. ولقد أصرت الحكومات السابقة على التعاطي باستخفاف “مريب” مع نظام الفوترة، وامتنعت عن وضع النقطة الختامية لهذه الحكاية الطويلة؛ فـمن يمنع تطبيق نظام الفوترة؟

إذا كانت الجهات الحكومية تعترف بوجود فلتان بحركة المواد والسلع، واحتكار جشع لها، وتحكم شبه مطلق بأسعارها الفاحشة التي يدفع ثمنها المواطن – ولا أحد آخر سوى المواطن – فهل التجار والمستوردون أقوى من قرارات الحكومة “الجدية” بتطبيق نظام الفوترة ؟

لقد رفضوا سابقا ولم يتعرض لهم أحد.. فهل الحكومة جادة هذه المرة بوضع نهاية لحكاية تمردهم على القرارات والإجراءات الناظمة لعمليات البيع والشراء والاستيراد بالفاتورة ؟

كلنا يعرف أن نظام الفوترة لا يمكن أن يُنفذ دون “أتمتة” الجمارك.. وأسواق الهال؛ وبالتالي: إذا كانت الحكومة جادة في وضع النهاية السعيدة لهذه الحكاية الطويلة، فلتجبنا على السؤال: من يمنع تطبيق الأتمتة؟

 

الحكومة وافقت على مشروع قانون الفوترة

لقد تفاءلنا أكثر مما يجب عندما قرأنا بأن “مجلس الوزراء وافق” في جلسته المنعقدة، يوم 2 شباط 2016، على “مشروع القانون الخاص بنظام الفوترة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستكمال صدوره”. وشدد معاون وزير المالية لشؤون الإيرادات – حينها – على أهمية مشروع القانون، لأن الفاتورة هي إثبات لعملية البيع والشراء في التبادلات بين مختلف حلقات الوساطة التجارية، بدءا من المستورد وانتهاء ببائع المفرق؛ والجانب الأهم أن الفاتورة المستند الوحيد الذي يثبت صحة القيود في دفاتر المكلفين، وهي المؤيد لحقيقة نشاطهم، وبالتالي صحة النتائج السنوية لهذا النشاط.

وأكدت وزارة المالية، بعد موافقة الحكومة على مشروع قانون الفوترة، أن “الفاتورة تحد من التهرب الضريبي الكلي والجزئي، وتخلق توازنا بالأسعار من خلال المنافسة العادلة بين ممارسي الأنشطة الاقتصادية المتشابهة، وتحقق مصلحة المواطن في الحصول على سلعة أو خدمة ذات مواصفات وسعر واضح ويضمن خدمة ما بعد البيع أو أية شروط أخرى ترد بالفاتورة”.‏

وقد نصت المادة 12 على عقوبات كبيرة بحق من يمتنع عن تداول الفاتورة تصل إلى مثلي الضريبة المفروضة.‏

ويلزم مشروع القانون أصحاب الفعاليات التجارية والصناعية والحرفية والخدمية بتنظيم فواتير مبيعاتهم “نقدا آجلا”، أو إرسالية للبيع بالأمانة. كما يلزم جميع الموزعين غير المنتجين وغير المستوردين الذين يقومون بتوزيع السلع والمواد بسيارات التوزيع بتحرير الفواتير للمواد التي يقومون ببيعها وبيان مصدرها حين الطلب، ولكن مشروع القانون لم يبصر النور حتى الآن.. فلماذا؟

لقد اعلنت وزارة المالية منذ خمسة أعوام أنها “تعمل على إدخال الأتمتة على جميع مجالات العمل بما يضمن عدم ضياع حقوق الدولة”. وبما أن الوزارة ترى أن قانون الفوترة يشكل أساس وعماد الإصلاح الضريبي، وبما أن مشروع القانون جاهز مع تعليماته التنفيذية، فلماذا رفضت الحكومة استكمال صدوره؟

 

من يعرقل صدور القانون؟

توقعنا أن يحال مشروع القانون إلى مجلس الشعب في آذار 2016 لكن الحكومة السابقة آثرت التريث كعاداتها في كل القضايا التي تُغضب التجار؛ وكان صادما تصريح وزير المالية السابق، في 4 أيلول 2016، ومفاده أن “دور وزارة المالية هو توضيح وجهة نظرها لمتخذي القرار في الحكومة، حول أهمية القانون.. وعند وصول الحكومة إلى اعتقاد بجدوى التشريع أو التعديل يتم إصداره”!! ما يعني أن وزارة المالية ألقت صراحة مسؤولية عدم صدور قانون الفوترة على الحكومة السابقة!!

والسؤال: إذا لم تقتنع الحكومة أن التهرب الضريبي يستنزف خزينة الدولة، فلماذا وافقت على مشروع قانون الفوترة في مطلع شباط 2016؟
لقد أكدت وزارة المالية، منذ عقدين من الزمن على الأقل، “أن من حق الدولة أن تحصل على حقوقها، وبأنه لن يُسمح بأي نوع من أنواع التهرب الضريبي”؛ كما أن رئيس الحكومة السابق أكد أن قانون الفوترة سوف يحد من اقتصاد الظل، وأكد وزير ماليته أن تطبيق الفوترة سوف يمكّن الإدارة الضريبية من الكشف عن المطارح الضريبية في إطار تحصيل الخزينة لحقوقها. والسؤال: من يعرقل صدور قانون الفوترة حتى الآن؟

والسؤال مشروع لأن هناك من ضغط وفرمل الحكومة السابقة، ومنعها من استكمال صدور الفوترة؟

ترى هل هم كبار التجار وحيتان المال؟

رئيس الحكمومة السابق أكد أن هناك من يحمي كبار المكلفين ضريبيا.. فلماذا لم يحاسبهم ويحيلهم إلى القضاء؟

الرد الوحيد على كبار المتهربين من دفع الضرائب يجب أن يكون بتطبيق الفوترة.. والأتمتة.. فلماذا التلكؤ؟

 

هل ستفعلها المالية؟

بعد خمسة أعوام من إقرار الحكومة السابقة لمشروع قانون الفوترة، قررت وزارة المالية تطبيق الفوترة على قطاعات محددة – أي تدريجيا – وأتت هذه الخطوة بعد إنجاز آلية الكترونية للتحقق من إصدار الفواتير.

وأعلنت الوزارة، في 11 شباط الفائت، أنها أنجزت آلية إلكترونية للتحقق من إصدار الفواتير، وأن هذه الآلية تعدّ بمنزلة خطوة مهمة باتجاه العدالة الضريبة، والتحوّل الرقمي في عمل الإدارة الضريبية.

وتلافيا لمشكلة الاتصال بالإنترنت خلال انقطاع الكهرباء، أبرمت الهيئة العامة للضرائب والرسوم اتفاقات مع شركات الاتصالات لتقديم شريحة خط خليوي بأجور رمزية لا تتيح لمستخدمها الدخول إلى الإنترنت بشكل كامل، وإنما تستخدم حصرا للربط مع المالية، إضافة إلى إجراءات عديدة هدفها – بالخلاصة – تذليل صعوبات تفعيل الآلية الجديدة.

ترى!! هل قررت وزارة المالية أخيرا أن تفعلها وتطبق الفوترة على الجميع؟

 

بالمختصر المفيد

نؤيد وزير المالية بقوله إن من حق الدولة استيفاء الضريبة المناسبة والعادلة من البيوع العقارية، لكننا نسأله: متى سيأتي دور كبار التجار وحيتان المال لتستوفي الدولة حقها باستيفاء الضريبة المناسبة والعادلة جراء نشاطهم التجاري الذي يعودعليهم بالأرباح مع كل ثانية.. وليس كل ساعة أو يوم؟