مجلة البعث الأسبوعية

هل ما زالت المقاهي الثقافية بحلب عنوان الأدباء والفنانين؟

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

من ساحة القرية إلى مقهى الحكواتي، ومن السير الشعبية إلى مقاهي القراءة والفن التشكيلي والأمسيات الأدبية، ومقاهي عرض الأفلام السينمائية والمسرحيات والحفلات الموسيقية والخطب السياسية والثقافية، والألعاب والتسالي والمتقاعدين والعاطلين عن العمل، ومن ثم إلى مقاهي مراكز التسوق إلى مقاهي الانترنت.

منذ سوق عكاظ كمقهى ثقافي تاريخي بمفهوم وأثر رجعي معاصر، والأدباء والفنانون يجتمعون في مكان ما من العالم، يتخذ على الأغلب صفة “المقهى” ليتبادلوا النقاش والحوارات الثقافية والفكرية والفنية والسياسية والعامة، والخاصة، المتعلقة بأعمالهم الفنية والكتابية، إضافة إلى الرواد الآخرين من رجال أعمال وساسة وسائحين وزوار..

 

منذ ذاكرة القهوة

وتمتلئ مدن العالم بالمقاهي الثقافية من باريس إلى لندن ومصر وبغداد وبيروت وعمّان ويافا، ثم تدريجياً في المغرب العربي. وظاهرة المقاهي الثقافية ظاهرة عالمية، ولكنها بمفهومها الدلالي كمقهى ثقافي، انطلقت تاريخياً من دمشق التي احتضنت أقدم مقهى منذ العام 1530؛ ومن ينسى مقهى الروضة الذي لا ينسى ظلال كل من مظفر النواب، ونزار قباني، وعبد الوهاب البياتي؟! ولا بد أن مقهى “الهافانا – واسمه الأصل “الرشيد” – يتذكر من زاره يوماً، مثل محمود درويش الذي زار مقهى “السياحي” بحلب أيضاً، ومن رواد “الهافانا” كان كل من محمد الماغوط، وإسماعيل عامود، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد الصافي النجفي، والشاعر القروي، ومحمد مهدي الجواهري، ورجاء النقاش.

 

حلب مقهى كبير

ولأن حلب تحب اللقاءات المختلفة، تجد فيها العديد من المعالم الأثرية والسياحية والثقافية؛ ومنها ظاهرة المقاهي الثقافية في وسط المدينة بين شارع بارون وساحة سعد الله الجابري والقلعة والجميلية وباب الفرج، ومنها مقهى “السياحي” الذي دمره الإرهاب، ويستعيد حضوره بفندق جديد، ومقهى “القصر”، و”جحا”، و”سمير أميس”، ومقهى “الحديقة”، و”النخيل”، ومقهى “فندق بارون”، وهذا يعني أن المقاهي الثقافية الحلبية لم تهدأ رغم قذائف الإرهاب.

 

بين النصوص والألوان

وقد أشرقت تجربة العديد من الأدباء والفنانين من هذه المقاهي، أمثال وليد خلاصي، وعبد الله حلاق، وشريف محرم، ولؤي كيالي الذي رسم المقهى أيضاً، إضافة للعديد من الفنانين التشكيليين الذين عملوا فنياً على المقهى كـ “ثيمة” موضوعية، ومنهم الفنان أحمد شير المقيم في بلجيكا، والذي زوّد “مقهى حنا كعده” باثنتين من لوحاته.. وهنا يروي الفنان والمخرج المسرحي والكاتب د. وانيس بندك أن الفنان شير كان يرتاد “مطعم كعده” في التسعينيات، وعندما سمع بأنني سأقدم محاضرة فيه أرسل هاتين اللوحتين، إحداهما تعبر عن المكان الصيفي، والثانية عن الشتوي، ولقد لاقتا إعجاب الناس كثيراً عندما عرضهما ضمن معارض كثيرة له في أوروبا، وقد طلبت من أبناء حنا كعده تكبير اللوحتين وتعليقهما داخل المقهى.

 

ما حال المقاهي اليوم؟

لكن، ما دور المقهى الثقافي الفني: هل هو تنويري؟ اجتماعي؟ سياسي؟ وما علاقته بثقافة المكان؟ وما دوره في الحركة الثقافية الأدبية والفنية؟ وهل ما زال للمقاهي مستقبل من نوع ما، لاسيما في ظل التحولات المعاصرة الحياتية والتكنولوجية وكورونا؟ زهل ما زالت المقاهي عنوان الأدباء والفنانين؟ وكيف يمكننا تفعيلها لتكون مكاناً للأمسيات الأدبية والندوات والجلسات الحوارية المفتوحة التي ترافقها معزوفات موسيقية ورسوم حية ومعارض لكل من الكتب والفن التشكيلي؟

 

أمكنة لها أرواح وهوية اجتماعية

رأى الكاتب د. فاروق أسليم، عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتّاب العرب، أن المقاهي تشكّل في أصل وجودها حالة اجتماعيّة ذكوريّة شعبيّة لتزجية أوقات الفراغ بالأحاديث وبعض الألعاب، وكان للجانب الثقافي حضور شعبيّ تمثّل في ظاهرة الحكواتي، وقراءاته للسير الشعبية.

وأضاف: مع تطور المجتمعات وزيادة نسبة التعليم حدث تغيّر اجتماعيّ وثقافي في تشكيل جمهور المقاهي، ليتجاوز الطابع الشعبي إلى طابع ثقافة النخب، مع محافظة المقاهي على كثير من مظاهرها المجتمعيّة الأصلية، غير أنّ بعضها تحوّل بسبب نوعيّة مريديه إلى مقهى للثقافة وحدها، كمقهى “الهافانا” في دمشق، و”القصر” في حلب، قبل عقود من الزمن:؛ وغيّر هذا التحوّل في طبيعة مثل هذه المقاهي التي اشتهرت بأنها ثقافية، أي صارت تنويريّة، وأضحت تجتذب نوعاً محدّداً من المشتغلين بالسياسة، أو لنقل من المنشغلين بها؛ ومن المؤسف، أنّ هذا النمط من المقاهي يكاد يندثر لوجود بدائل كثيرة معاصرة حلّت مكانه، لكنّها، بالتأكيد، لم تستطع أن تقوم بمثل دوره الاجتماعي.

وأكد أسليم: المقاهي أمكنة لتثاقف مجتمعي وفكريّ مباشر، أمكنة لها أرواح، تمنحها هويّةَ المكان الاجتماعيّ الذي تنتمي إليه من جهة الحضور وحريّة الكلام ولطف العلاقات؛ فالبيئة المجتمعيّة المنفتحة والمثقّفة مغايرة للبيئة المنغلقة والأقل ثقافة، وهذا ما يمنحها هوياتها المتعدّدة، مع ملاحظة أنّ تلك الهويّات لا تأتي بغتة، بل تُوجد بتراكم الحضور الإنساني؛ فالمقهى الذي امتلك هويّة ثقافيّة بفعل تراكم تاريخي مجتمعي ثقافي يصبح معلماً ثقافيّاً ينبغي المحافظة عليه.

وتابع د. أسليم: من المعروف أنّه كان لبعض المقاهي في سورية، ولا سيّما في دمشق وحلب، دور ظاهر في تنشيط الحراك الثقافي أدبيّا وفنّيّاً وفكرياً، له طابع عامّ، مع وجود خصوصيّات تمثّلها مجموعات من روّاد كلّ مقهى، أو له طابع تقليدي أو تجديدي شبابي في الغالب مع تداخل وحوار بينيّ يرفده حضور لمثقّفين قادمين من أمكنة بعيدة؛ أمّا مقاهي حلب فدورها اجتماعي، وقد يحضر الجانب الثقافي على نحو خجول، حين يلتقي أصدقاء منشغلون بالثقافة والإبداع والفكر في مقهى ما، يتبادلون الأحاديث والهموم المجتمعية والسياسيّة والثقافية، لكن بعض مقاهي حلب استقطبت جمهوراً من المثقّفين أكثر من غيرها، وثمّة أنشطة ثقافية ملحوظة لمنتديات أهلية، وفي مقدّمتها “منتدى رياض ندّاف الأدبي الثقافي”، و”المقهى الثقافي الأسبوعي” الذي يشرف عليه الشاعر محمد بشير دحدوح؛ ولأنّ أنشطة كلّ من هذين المعلمين الثقافيّين تتمّ في مقهى محدّد قد بدأ يظهر لهذا المقهى ملمح ثقافي، لكن ذلك لم يرقَ إلى درجة أنّ تكون له هويّة ثقافية، فدون ذلك إعاقات لها طابع ماديّ وثقافي ومجتمعي معاً.

واختتم د. فاروق أسليم أن المقاهي التي امتلكت هوية ثقافية ستبقى عنواناً للأدباء والفنانين، يلتقون ويتبادلون المعرفة والخبرة؛ وغياب ارتياد الأدباء والفنّانين لها يعني وجود خلل ما ثقافي ومجتمعيّ.

وعن مستقبل هذه الظاهرة ضمن التحديات المختلفة، أجاب: يجب التفكير في آلية المعالجة من خلال اختيار المقهى المناسب لتحويله من حالة مجتمعيّة خالصة إلى حالة مجتمعيّة ثقافيّة ومربحة مادّياً، ويمكن للجهات الثقافيّة الرسميّة والنقابية والاتحاديّة أنّ تتضافر جهودها لتحقيق ما أشرت إليه، وهو في ظنّي مهمّ جدّاً؛ لأنه سيسهم في الوصول إلى جمهور جديد تستهويه المقاهي أكثر من صالات العرض وقاعات المحاضرات الرسميّة.

 

بيتنا الثاني المفقود

بدوره، يعتقد د. بندك أن المقهى الثقافي بمفهومه الذي عرفناه في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ما زال موجوداً في حلب، وكان أشبه ببيتنا الثاني الذي نلتقي فيه، وتدور الحوارات بيننا بدءاً من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ثم نختتم حواراتنا في القضايا الثقافية بشتى مجالاتها الأدبية والفنية، وأحياناً كانت تحدث بيننا مهاترات ومشاحنات عندما لا نتفق على بعض الأمور، لكن ذلك ينتهي في اليوم ذاته، لأننا كنا في اليوم التالي نبدأ من جديد.

وأضاف: من المقاهي التي تركت في ذاكرتنا حضورها المكاني والثقافي بقوة مقهى “القصر” الذي شعرنا بعد أن باعه صاحبه ليتحول إلى بنك تُتداول فيه النقود والعملات، عكس الحالة الروحية والثقافية التي كانت تجمعنا.. يومها، شعرنا أننا أصبحنا بلا بيت وتشردنا لفترة من الزمن، وكنا نتواعد بجانب المقهى حتى لا نفقد ذاكرتنا الجميلة عن المكان الذي كان يجمعنا، ومن ثم ننطلق إلى مكان آخر، كمقهى “الفندق السياحي”؛ وكنا نشعر بغربة حقيقية.. حتى النادل “أبو الخير” كنا نتذكره بكثير من الحنين لشخصيته التي كانت جزءاً من المكان”.

وتابع د. بندك: في زمن الحرب، الكثير من المقاهي إما أغلقت أو دمرت، وظهرت مقاهٍ جديدة؛ وأذكر هنا مقهى “أثر الفراشة” في حي السريان القديمة، والذي تحول إلى مقهى ثقافي حقيقي نقدم فيه أمسيات ثقافية كثيرة، ونقيم معارض للفنون التشكيلية، وأمسيات موسيقية، وأحياناً، كانت الموسيقى ترافق الشاعر أثناء الإلقاء. وعلى سبيل المثال، قدمنا أمسية بعنوان “تحية إلى الشاعر الجميل نزيه أبو عفش”، تحدثنا عن شعره فنياً وفكرياً، وألقينا قصائده على الجمهور الذي ضاق به المقهى لشدة تعطشه لمثل هكذا نشاطات، وبأسعار رمزية، وعندما اتصلت بالشاعر نزيه أبو عفش وأخبرته بإقامتنا لأمسية عنه، فرح كثيراً لدرجة أنه قال لي حرفياً: “أنا لا أصدق ما تقوله لي! هل من المعقول أنتم في حلب تعيشون تحت قذائف الإرهابيين وتفكرون بي وتقيمون أمسية عني؟!”، لكن، سرعان ما توقف كل شيء في هذا المقهى سوى الأثر الذي تركته الفراشات المُحبة للثقافة، لأن صاحب المقهى أخذه منا وحوله إلى مكتب للعقارات!! واستدرك د. بندك: منذ سنتين تقريباً – حسب معرفتي – ظهرت تجربة جديدة لمفهوم المقهى الثقافي في “مقهى الشباب” (“مطعم حنا كعدة” سابقاً)، وهذا المكان له مكانة كبيرة في ذاكرتنا، فقد كان من أقدم المطاعم في مدينة حلب، ويتميز بجمعه للمثقفين وفئات المجتمع كافة، عندما كان السياح الأجانب يزورون حلب يقصدونه لأطعمته الشرقية الشهية وأسعاره المناسبة، لكنه – خلال الحرب – تحول إلى مقهى فقط، وهو المكان الوحيد الذي يجمع المثقفين لبساطته وتاريخه الطويل، فهو من تراث مدينة حلب، يشبه البستان، وموزع إلى “شتوي” و”صيفي”، وأقيمت فيه نشاطات ثقافية أسبوعية بعنوان “الأصبوحة الثقافية” تبدأ من الساعة التاسعة صباحاً؛ وهذا المقهى الثقافي له رواده الدائمون، ودعيت العام الماضي لإلقاء محاضرة فيه عن “تاريخ المسرح في حلب خلال الخمسين سنة الأخيرة”، وكم استمتعت بذلك لأنني أحمل ذاكرة جميلة عن المكان، ولأن الحضور كان نوعياً وجاداً، ويشرف على هذا المقهى الثقافي الشاعر بشير دحدوح، وهي تجربة جميلة وهامة وأتمنى أن تستمر.